تحكي قصة شهيرة عن سباق للتجديف على القوارب بين فريقين، كل فريق يتكون من (8) أشخاص، وكانت تجهيزات كلا الفريقين متشابهة، وانتهت نتيجة السباق بفوز الفريق الأول بفارق كبير في المسافة خلال زمن قياسي، ويعود سبب هذا الفوز إلى أن الفريق لديه (7) أشخاص للتجديف وقائد واحد، بينما الفريق الخاسر والذي كان قاربه يتحرك ببطء شديد، كان لديه شخص واحد يتولى عملية التجديف، بجانب سبعة من القادة!!، وقد أرجعت إدارة الفريق الخاسر في تبريراتها سبب الخسارة إلى سوء أداء المجدف الوحيد في الفريق لأنه لم يقم بعملية التجديف على الوجه المطلوب!
والفريق الخاسر في هذه القصة يشبه إلى حد كبير بعض الجهات الحكومية في وقتنا الحاضر حيث نلاحظ الكثرة في المناصب الإدارية العليا، والقلة في المراكز الفنية والتي قد تشكل المهمة الأساسية للجهاز بأكمله، وعليه نجد موظفاً واحداً قد يشرف على أعماله أكثر من خمسة مدراء، لذلك لا نستغرب كثيراً عندما نلاحظ بطء هذه الجهات في تحقيق أهدافها، في ظل المتغيرات المتسارعة التي تمر بها جميع دول العالم. ومما يثير الاستغراب في هذا الموضوع هو أن يرجع سبب عدم فاعلية هذه الأجهزة إلى الموظف المسكين لعدم كفاءته ومؤهلاته، وكسله في أداء أعماله!
بملاحظة معظم الخرائط التنظيمية لمعظم الأجهزة الحكومية، والتي يعتبرها البعض مجرد مستطيلات وصناديق وخطوط مستقيمة ومتوازية لا فائدة منها، نجد أنها بشكل عام تتكون من الوزير الذي يقع على رأس الهرم للتنظيم الإداري في الجهاز، ثم يرتبط تنظيمياً بالوزير عدد كبير من وكلاء الوزارة، ويرتبط بالوكلاء مجموعة من الوكلاء المساعدين، ثم المديرين العامين، ثم المديرين العامين المساعدين ثم المشرفين الإداريين، وفي النهاية الوظائف الفنية والإدارية الأخرى.
وبعد هذه السلسلة الطويلة والمعقدة، نصل إلى نتيجة مفادها أن هناك توسعا كبيرا في المستويات الإدارية العليا، وهو ما تسعى إليه بعض الجهات عندما تقوم بتطوير وتعديل هياكلها التنظيمية، وذلك ليس لمتطلبات وظروف العمل وأهداف الجهاز، بل بهدف خلق نوع من المناصب وزيادة عدد المرؤوسين ولأهداف مادية بحتة مثل تعزيز الهيبة والمكانة والتفاخر بذلك.
وبالتالي سوف يكون هناك طبقة واسعة من المديرين بعيدين عن مستوى الأعمال التنفيذية، بالإضافة إلى طول وتعقد سير الإجراءات الإدارية، فضلاً عن التنافس غير الشريف، بين وكالات الوزارة أحياناً ، لتصبح كل وكالة تعمل وحدها بعيدة عن أهداف الوزارة، وكأنها وزارة داخل وزارة.
ومما يزيد الأمر تعقيداً انخفاض حجم الوظائف الفنية في الإدارات الدنيا مقابل الوظائف الكتابية وخاصة في الجهات الحكومية ذات الطابع الفني البحت مثل الأعمال الهندسية والطبية والإشرافية.
وللتوضيح أكثر أسوق المثال التالي: إذا افترضنا أن هناك جهة حكومية مهمتها الأساسية تنفيذ وتشغيل مشاريع هندسية تتعلق بالبنية التحتية للبلاد، فمن المفترض أن يكون غالبية العاملين في هذه الجهة، هم من الفنيين المتخصصين في كافة الأعمال الهندسية، ولكن عند دراسة وتحليل الهيكل التنظيمي لهذه الجهة نجد أن هناك توسعا كبيرا في حجم العاملين في الإدارة العليا، وفي المقابل أيضاً هناك توسع في حجم العاملين في الإدارات الدنيا في الأعمال الكتابية الإدارية مع وجود نقص كبير في التخصصات الهندسية والإشرافية رغم أنها عصب عمل الجهة ووسيلة تحقيق أهدافها... وبناءً على هذه الحالة في هذا المثال المفترض لن يقوم الجهاز بمهمته الأساسية بكفاءة وفعالية وعلى الوجه المطلوب، وحال هذا الجهاز يشبه تماما حال الفريق الخاسر في مسابقة التجديف على القوارب، وعادةً المديرون في المستويات العليا يعلقون سبب العجز عن تحقيق الأهداف وسوء أداء الجهاز على الموظفين في المستويات الدنيا، بسبب نقص الخبرة والكفاءة وضعف التأهيل.
وهذا التضخم التنظيمي يطلق عليه علماء الإدارة "قانون باركنسون" نسبةً إلى الكاتب والمؤرخ البريطاني (نورثوكت سيرل باركنسون)، والذي يرى أن: "عدد العمال يزيد بغض النظر عن العمل، وأن المدراء يخلقون وظائف مرؤوسة لرفع مستوى مراكزهم، وأن الأفراد يخلقون لبعضهم في الأنشطة المتوسعة وظائف لا تدعو إليها الحاجة". وواقع بعض الجهات الحكومية اليوم يؤكد صحة قانون "باركنسون"، وبناءً على هذا القانون، فعلى أي وزير ألا يتعجب إذا علم أن تعليماته وتعاميمه، وخططه وسياساته لم تنفذ في وزارته، وليعلم أي وزير أو وكيل وزارة (الكابتن) كذلك أن جوهر "السلطة" ليس بيده، وإنما بيد صغار الموظفين في الوزارة (مجدفي القوارب)!
إذا فهمنا قانون "باركنسون" ومعطياته، استطعنا فهم الكثير من الإشكاليات التي تحدث في كثير من الجهات الحكومية، وكذلك فهمنا سبب فشل الحلول التي وضعت لحل هذه الإشكاليات. وفي الحقيقة هناك غياب واضح لأهمية التنظيم الإداري، والعنصر البشري.
فجميع الأجهزة الحكومية لديها خرائط تنظيمية، ولكنها في حقيقتها لا تعكس التنظيم الفعلي للجهاز، إلا في تحديد المناصب العليا فقط، كما أن خطوط المسؤولية والصلاحية غير واضحة فيها، ناهيك عن عدم وضوح الأهداف والمهام وغموضها وتضاربها في كثير من الأحيان، هذا بالإضافة إلى تجاهل أهمية الموظفين في الإدارات الدنيا والذين هم في النهاية من يقوم بتنفيذ المهمة الأساسية للجهاز على أرض الواقع، حيث يتم التركيز فقط على سير الإجراءات والأمور الكتابية والتقارير الشكلية، وحضور وانصراف الموظفين، دون التركيز على تحقيق الأهداف والنتائج المطلوبة منهم.
ومن هذا المنطلق ينبغي علينا في هذه المرحلة أن ندرس ونحلل الواقع الإداري للجهات الحكومية بالتركيز أولاً على المستويات الإدارية الدنيا، ثم توجيه الدراسة والتحليل نحو المستويات الإدارية العليا، وأن نقيّم مقدار نجاح أو فشل أنظمتها الإدارية فيما يتعلق بالنشاط الأساسي والمهام الفعلية التي تقوم بها هذه الجهات.