يطرح الموقف المتعنت للكيان الصهيوني، تجاه قوافل التضامن مع غزة المحاصرة، والذي بلغ حد القتل بحق المتضامنين أسئلة ملحة عن دوافع تمسك الصهاينة بالحصار.
هذه القراءة ستحاول تقديم الجواب، من خلال ربط هذا الحصار بالمشروع الغربي الهادف إلى الاستعاضة بالبعد الجيوسياسي والاستراتيجي بديلا عن الجغرافيا الطبيعية، وتحقيق اندماج "إسرائيل" بالمنطقة، بصيغة القاعدة المتقدمة للمشروع على الأراضي العربية.
كان إيغال ألون، أول من لفت الانتباه، في أوائل السبعينيات، إلى إمكانية قيام حكم ذاتي فلسطيني، بالضفة والقطاع، يرتبط بكنفدرالية مع الأردن، وأمنيا بإسرائيل، ويكون معبرا بريا للتسلل الصهيوني، إلى آسيا وأوروبا وأفريقيا. تزامن ذلك بربط "إسرائيل" بمشاريع تصدير الغاز العربي عن طريق الموانئ الفلسطينية، وإيصال المياه عبر أنابيب تمتد من تركيا إلى الأراضي المحتلة. كما ارتبط بالحديث عن تحقيق توسع إسرائيلي في جنوب لبنان للوصول إلى مياه الليطاني، واستكمال مشروع تحويل مياه نهر الأردن إلى أراضي النقب، في فلسطين المحتلة.
حالت حرب أكتوبر عام 1973، واتخاذ القادة العرب قرارهم التاريخي باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، دون تحقيق مشروع ألون.
ومنذ منتصف السبعينيات، كان قطاع غزة متميزا في مقاومته للاحتلال. وكان بما يمثله من ثقل سكاني وحركة رفض وممانعة مستعصية، يشكل عبئا ثقيلا على سلطات الاحتلال، وأثناء محادثات كامب ديفيد بين القيادة المصرية والصهاينة، حاول رئيس الحكومة الإسرائيلية، مناحيم بيجن إقناع الرئيس المصري، أنور السادات بدمج موضوع القطاع بالمفاوضات، على اعتبار أن مصر كانت تدير القطاع حتى حرب يونيو عام 1967. ورفض الرئيس السادات ضم القطاع للأراضي المصرية، خشية من تعقيدات ذلك على عملية التسوية السلمية برمتها.
بقي القطاع مصدر إزعاج لقوات الاحتلال. وكانت الانتفاضة الأولى قد انطلقت من غزة، لتعم مختلف المدن الفلسطينية، ولتسجل صفحة فريدة، في النضال الفلسطيني. وحسب وصف إسحق رابين، مثلت غزة كابوسا، يحرم الصهاينة، من الأمن والطمأنينة. وفي واحدة من أكثر تصريحاته مرارة وإحباطا تمنى ألا يستيقظ صباحا من نومه إلا وقطاع غزة قد أزيل من الكرة الأرضية. بل إن إدارة رابين، بادرت بالاتصال بأحد قادة حركة فتح في غزة، وعرضت عليه مشروع استلام الحركة لقطاع غزة، وتم تبليغ ذلك للرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، ولحقتها رسائل أخرى، كانت المقدمة لمفاوضات أوسلو، التي وقعت في 17 أغسطس عام 1993.
لكن ذلك لم يمنع إسرائيل من مواصلة العمل على ترتيب الأوضاع السياسية بالمنطقة، انسجاما مع مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي نظر له شمعون بيريز. وقد عدل لاحقا ليصبح "جديدا" يأخذ مكانه من خلال "الفوضى الخلاقة" و"مخاض الولادة الجديدة".
انتهت حرب بيروت عام 2006، دون إجراء تعديلات جذرية فوق رقعة الشطرنج، وكانت كما تم توصيفها، "حربا لم تكتمل". ومن جديد أعيد بعث مشروع إيغال ألون السابق، لكن دون قطاع غزة في هذه المرة، والتركيز فقط على الضفة الغربية، وربطها بكنفدرالية أردنية - إسرائيلية.
وأثناء حرب غزة، صدرت تصريحات، تؤكد هذا الاستنتاج. ففي مقالة نشرها السفير السابق للولايات المتحدة بمجلس الأمن، جون بولتون في الـ"واشنطن بوست"، ذكر أن محاولة إقامة سلطة فلسطينية يقودها الفلسطينيون قد فشلت، وأن أي حل قائم على دولتين ولد ميتا". "لأن الإرهابيين يسيطرون على غزة". ورأى أن "خارطة الطريق" الأمريكية لإحلال السلام لم تؤد إلى نتائج إيجابية. إن ذلك يقتضي التفكير في مقاربة جديدة تقوم على أساس وجود "ثلاث دول" توضع بموجبها غزة مجددا تحت سيطرة مصر فيما تعود الضفة الغربية وفق صيغة معينة إلى الأردن".
من جانبه، عبر الملك الأردني، عبدالله الثاني، أثناء لقاء مع فضائية الجزيرة، عن قلقه من وجود مؤامرة على شعب فلسطين، تحول دون قيام دولته المستقلة، وتعمل على صياغة خارطة جديدة لدول عدة بالمنطقة.
إن الهدف إذاً، هو فصل القطاع عن الضفة وإلحاقه بمصر. أما الضفة فستغرق بأتون حرب أهلية، ويزج بعشرات الألوف من فلسطينيي أراضي عام 1948، إليها، وفقا لتصريحات تسيبي ليفني. وسيطرح الأردن مجددا كوطن بديل للفائض من الفلسطينيين. وتوضع القيادة الأردنية أمام خيارين أحلاهما كارثي: إما القبول بفكرة الوطن البديل، وتحقيق اتحاد كونفدرالي مع الضفة، والارتباط اقتصاديا بالكيان الصهيوني، أو الدخول في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
في حديثه عن الأهداف الاستراتيجية لحصار غزة، أشار مايكل شوسادوفسكي إلى أن "هذا الحصار هو جزء من استراتيجية، صاغتها إسرائيل، بهدف تدمير السلطة الفلسطينية، ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وتحويل أراضي القطاع والضفة إلى كانتونات منفصلة عن بعضها، وفصل الضفة الغربية نهائيا عن القطاع، وضمان بقاء حكومتين متصارعتين إحداهما في رام الله والأخرى في قطاع غزة، حتى يتم الطرد الجماعي للفلسطينيين، وإعادة إلحاق الضفة بالأردن.
وفي مقال للكاتب كريس هيدجز، تحت عنوان "لغة الموت"، أوضح أن هدف الحصار على غزة هو تحويل الضفة والقطاع إلى غيتوهات فلسطينية يكون بمقدور إسرائيل شل الحياة فيها، وتمنع عنها الدواء والغذاء ومقومات الحياة. بحيث تلتغي نهائيا إمكانية قيام دولة فلسطينية. "إن إسرائيل" لن تتعامل مع الفلسطينيين إلا بلغة القوة والموت". ومن جهته، قال الصحفي الأمريكي سينجلر إن هناك حلين لا ثالث لهما لمعالجة الوضع في غزة، إما ترحيلهم عنها، أو تركهم يواجهون القتل. إن ما يحتاجه الشرق الأوسط، من وجهة نظره هو مزيد من القتل، وليس أقل. هذا يبدو مرعبا، لكنه الحل الواقعي الأوحد.
هذا هو إذا موقع الحصار في المشروع الصهيوني، وهو الذي يفسر الموقف الغاضب للكيان الصهيوني من تجرؤ أحرار العالم على محاولة كسره.