كثيرا ما يقال إن الشعب الأمريكي أكثر تدينا من الشعوب في أوروبا الغربية، فنسبة الذهاب للكنائس أكبر وحضور النشاط والمنظمات الدينية في الحياة الأمريكية أكبر بكثير منها في أوروبا. في أمريكا تسمع كثيرا عبارة "بارك الله أمريكا" كما أن على الدولار عبارة "نحن نثق في الله" (وضعت هذه العبارة بحسب مؤرخة الأفكار جينيفر هتش في الخمسينات ضمن الصراع مع الاتحاد السوفييتي لتأكيد مقولة أمريكا المؤمنة مقابل الاتحاد السوفييتي الملحد). حسب إحصاءات التدين في أمريكا سنة 2008 فإن نسبة 76% من الأمريكان يصفون أنفسهم بأنهم مؤمنون، بينما إحصاءات أوروبية تكشف أن النسبة في أوروبا الغربية تنخفض بشكل كبير. لكن ستيفن وينبرج الحاصل على نوبل في الفيزياء وفيلسوف العلم المعاصر لديه تحليل مختلف لهذه الظاهرة. فحسب وينبرج فإن هناك اختلافا في معنى التدين بين أمريكا وأوروبا. فالأمريكيون، بحسب وينبرج متدينون أكثر من الأوروبيين لكنهم أقل إيمانا بالله منهم! تبدو العبارة شديدة المفارقة من الوهلة الأولى ولكن لنتابع مع وينبرج تحليله للتدين الأمريكي. يقول، وهو المهتم بظاهرة الدين، حين أتحدث مع المؤمنين الأمريكيين وبعضهم من رجال الدين لا أجد لديهم اهتماما بميتافيزيقيا الدين. أي لا أجد لديهم انشغالا بقضايا الدين الكبيرة المتعلقة بخلق الكون أو اليوم الآخر أو المعجزات بقدر اهتمامهم بالدين في الحياة اليومية. أي ما يقدمه الدين للإنسان من فوائد اجتماعية ونفسية في حياته الحالية. يواصل وينبرج ملاحظاته ويقول لم أعد أستغرب أن يجيبني رجل دين، حين أسأله عن قضايا من نوع اليوم الآخر وما بعد الموت، بأنه غير متأكد وينصرف عن الموضوع بسرعة.
شخصيا أعتقد أن فهم ظاهرة التدين في أمريكا من خلال الفلسفة البراجماتية التي يمكن أن نقول إنها الفلسفة الأمريكية بامتياز. البراجماتية بشكل مبسط هي فلسفة تنظر للأفكار من خلال منظور عملي. أي إن الفكرة الصحيحة هي الفكرة النافعة. فبقدر ما يجني الإنسان من نفع، بكافة أشكال النفع المعنوي والمادي، من فكرة معينة فإن هذه الفكرة تحظى بتطبيق واهتمام. تعامل الأمريكيون طيلة تاريخهم مع الأحداث والمواقف بهذه المنهجية وهو ما ساعد على رفع معدلات المرونة والقابلية للتغيير والتطوير باستمرار. فالأفكار براجماتيا يجب تغييرها إذا لم تعد تدرّ نفعا على أصحابها. هنا الأفكار لا يتم تطبيقها بسبب أنها موروثة أو لأن شخصا ما أوصى بها أو لأنها تمثّل الحق المحض، بل لأنها مفيدة ويبقى وجودها مرتبطا ارتباطا وثيقا بمدى الفائدة المجنيّة منها. شكّلت هذه الفلسفة التاريخ الأمريكي اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ودينيا أيضا. فالتعامل الغالب على التدين الأمريكي هو اهتمامه الكبير بالجانب العملي من الدين. أي إن الدين جيد لأنه مفيد. بمعنى أن رجل الدين حين يدعو الأفراد فهو يعقد معهم صفقة مفادها: أدخل هذا الدين وتحصل في المقابل على علاقات اجتماعية أفضل وراحة نفسية أكبر. من الأكيد أن كل الدعوات لأي دين في أي مكان تحتوي على هذا الجانب. ولكن الفرق هنا في منطق العلاقة، فالدعوة الدينية التقليدية تقوم على هذا المنطق: الله هو الخالق ويجب على الإنسان طاعته والدين هو الطريق الوحيد الصحيح لهذه الطاعة. هذا هو المبدأ. وبالتالي فإن التدين ليس بالضرورة سببا لسعادة دنيوية بقدر ما هو للسعادة الأخروية. براجماتيا الجانب الأخروي يحتل مرتبة متأخرة في مقابل الجانب الدنيوي فالدين هنا هو فكرة مفيدة ومن الذكاء استغلالها.
البروتستانتية، وهي الأكثر انتشارا في أمريكا، هي أقرب التصورات الدينية للفهم البراجماتي، ففيها يحتل الجانب الدنيوي مساحة أكبر وأهم كما أنها تحتوي على مساحة أوسع للتفسيرات الجديدة للدين ولا ننسى أن البروتستانتية تاريخيا كانت قفزة وخروجا على الكاثوليكية والفهم الجامد للدين. في البروتستانتية يقل ضغط السلطات الدينية، ففيها لا وجود لبابا ولا لمرجعية نهائية مما يسمح لمعتنقيها بالكثير من الحركة وهنا نتذكر المبحث الكلاسيكي في مجاله لماكس فيبر الذي حلل تطور الرأسمالية من خلال الأخلاق البروتستانتية. فمن خلال المساحة التي تعطيها البروتستانتية للحرية الفردية والاهتمامات الدنيوية استطاعت الفلسفات العقلانية النفعية كالرأسمالية بمحركها البراجماتي أن تعمل وتتجنب الوصول إلى حالات تناقض أو مصادمة. إلا أنه من المهم التذكير بأن الفصل الواضح والصريح في الدستور الأمريكي بين الدين والدولة جعل من الكنائس بعيدة إلى حد كبير عن الصراعات السياسية والاستغلال الأيديولوجي، وبالتالي أبعدها عن الدخول في علاقات من نوع آخر مع الاتباع وبقي رهان الكنائس على تقديم وصفة أكثر فائدة للحياة اليوم هي الرهان الذي تقدمه للأتباع وتدعوهم له.
من هنا برأيي أنه يمكن أن نفهم لماذا تبدو أمريكا أكثر تدينا ولكنها في ذات الوقت أكثر حركة وقدرة على التطور والتجدد. فالدين هنا يظهر بنسخة مختلفة، ففي شروط العلمنة والبراجماتية ظهرت تجربة دينية مختلفة وهنا نصل إلى فكرة مهمة وأساسية وهي أن الحديث عن تصور ثابت وأبدي للدين هو أمر يقبع في عداد الأماني أكثر من الواقع بل هو تصور خطير في كثير من الأحيان. فعلى مر التاريخ، ربما عصرنا الحالي هو نموذج لهذا، شهدت ظاهرة التدين تحولات وتغيرات كبيرة متأثرة بكافة الظروف المحيطة، الظروف الطبيعية كالتحولات البيئية أو الظروف الإنسانية اقتصادية واجتماعية وسياسية وفكرية. إدراك هذه الفكرة يعطي مساحة للحركة خصوصا في أوضاع مثل أوضاعنا اليوم حيث تمثل الأصوليات في كل اتجاه خطورة كبيرة على أمن وحياة الإنسان في كل مكان. ولا ننسى أن كل الأصوليات تقوم على فكرة واحد وهي أنها تعتقد أن فهمها للدين هو الفهم الثابت والوحيد والأزلي الصحيح للدين.