قصة "معانقة الفضاء" التي كتبها ونشرها الزميل (أحمد عدنان) في هذه الصحيفة (7مايو الماضي) واحدةٌ من أفضل أعماله المنشورة في الأشهر الأخيرة. لا تردُ في القصة معلوماتٍ جديدة، لا تكشف عن أسرارٍ تذاع لأول مرة؛ لكن الزميل اهتمّ بملء القصة بالاقتباسات عن الإعلام السعودي إبّان الرحلة الفضائية عام 1985، وفيها: الكثير من المشاعر الجياشة، والكلمات العاطفية، واستدعاءات الهوية العربية والإسلامية، والاعتزاز بالتفوق الحضاري، واليقين بالمستقبل وشيك القدوم، حيث سيغزو الرواد السعوديون الفضاء وتنافس ناسا وكالة الفضاء السعودية. استطاع عدنان بواسطة هذا الأسلوب إعادة خلق تلك اللحظة، بزخمها ونكهتها، وهو وإن لم يُعلّق على معناها صراحة، إلا أنه يترك التعليق للقارئ الذي لن يجد مفرا من الفكرة التي ستستحوذ عليه تدريجياً خلال القراءة. أتذكر أنني وقتها صدّقت أن إخوتي الذكور يمكنهم أن يصبحوا إذا كبرنا رواد فضاء في وكالة الفضاء السعودية (وليسَ أنا، للمفارقة. أظنني عجزت عن إيجاد حل في خيالي لمعضلة التوفيق بين العباءة وخوذة رائد الفضاء!)، مثلما صدّقت أن "الانتفاضة تدقّ المسمار الأخير في نعش الصهيونية" كما تقول (مجلة ماجد) للأطفال. لم يوجد قط مشروع سعودي للفضاء بعد تلك الرحلة اليتيمة مثلما أن الصهيونية لا تزال في قمة عافيتها. مدهش!... ويلوموننا لأننا جيل متشكك ومُرتاب!

قصة "معانقة الفضاء" تضعنا في مواجهة الحالة الدعائية الوطنية في إحدى أقوى تجلياتها. إنها ليست استعادة تاريخية للحدث، بل استعادة لتاريخ الدعاية التي صاحبت الحدث، وهذا لا يقلّ أهمية، لأنه يسمح بتفحّص الدعاية بعد أن انحسرت موجتها، وذهبت سطوتها الذهنية والإعلامية، وتكفل الزمن والواقع بتفكيكها وعرضها على مقاييس العقل والجدية والمصداقية. تتميز الحالة الدعائية الوطنية بتوغلها بعيداً في الأحلام إلى حدود اللامعقول، وتتميز في نفس الوقت برفضها العصبي العنيف للـمُساءلة أو التدقيق أو محاولة جرّ هذه الحالة الدعائية إلى عالم المعقول. تـُـعاقب الحالة الدعائية من يحاول عقلنتها، تصفه بالمتشائم، المنكفئ، اليائس، واضع العصي في الدواليب، العاجز عن المشاركة في البناء والتنمية؛ وتكافئ المنخرط في الحالة الدعائية بوصفهِ عنصراً بناءً، طامحاً، وطنياً، "شباب المستقبل وبُناة الوطن". وهي (حالة دعائية) لا مجرّد دعاية، لأن لها شخصيتها وسماتها الثابتة، وهي مُستمرّة ومزدهرة في حالة من التنمية المستدامة، ربما لحفظها مورداً للأجيال القادمة. تحاول أصواتٌ خافتة بين وقت وآخر أن تعقلن اللامعقول، ومطلع هذا الأسبوع بالذات كتب (داود الشريان) في صحيفة الحياة عن أحد النماذج الراهنة للنظريات الخرافية والكلام الخرافي كما وصفه، وهو ذاته ما أسميه بـ(الحالة الدعائية). نعرف الآن أن حقبة الثمانينيات الميلادية شهدت عدة محاولات صاخبة لإرسال رواد عرب أو مسلمين إلى الفضاء على متن المركبات الأمريكية والسوفيتية، لكن مشاريع الفضاء الحقيقية كانت تحدث بهدوء في الهند والصين وهي تثمر الآن. أما رائد الفضاء الأفغاني (عبدالأحد مومند) الذي صعد إلى الفضاء عام 1988 على متن مركبة سوفيتية، في حركة ذات مغزى سياسي خلال الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، فهو الآن مجرد عامل في حقل الطباعة في ألمانيا، على ذمة ويكيبيديا، بينما أفغانستان لا تزال في غيابة الجُبّ، لم تصعد إلى أيّ مكان.

قليل من الدعاية ضروريّ لإنجاز أيّ مشروع، دعاية لا تعد بما لا تستطيع، لا يأخذها إغواء الكلام، تلتزم بما تقول؛ كثير من الدعاية ضار مثل مادّة متفجرة تنسف المشروع. كل دول العالم تسمح بأشكال مستترة أو صريحة من القمار، لكن جنّة القمار هي لاس فيجاس. تتفاوت الدول في تشددها تجاه الحشيش، لكن هولندا هي جنّة الماريوانا. قليل من الدعاية ضروري لكن ماذا لو تخيلتُ عاصمة عالمية للدعاية، جنة للبروباجندا، تنتعش فيها الدعاية إلى أقصى حدود الخرافة. كيف ستكون قوانين هذه المدينة؟

- ستحتاج المدينة إلى مواطنين من فئة فاقدي الذاكرة. سيُرهقون مدينتهم لو استمروا يتذكرون ما قيل بالأمس وقبل الأمس ويتتبعون ما حدث. وسيُرهقون أنفسهم أيضاً وصحتهم وأعصابهم. يمكن إرسال أي شخص يفقد ذاكرته في العالم إلى هذه المدينة. سيكون مواطناً مثالياً سعيداً.

- جميع مستثمري المدينة يؤمنون بالحكمة الخالدة: "10% من الميزانية تصرف على المشروع الفعلي، 90% على الدعاية".

- المشروع الذي يقوم بأكبر حملة دعائية يحصل على فرصة أكبر للحصول على جائزة "أفضل مشروع لهذا العام".

- لا يمكن ملاحقة ومقاضاة أي مُنتج يروّج لنفسه بدعاية يتضح عند الاستهلاك أنها غير صحيحة. الدعاية الكاذبة محمية بقوة القانون.

- لا يمكن محاسبة السياسي على وعوده خلال فترة الانتخابات، ولا الجرّاح على تعهداته قبل الجراحة، ولا البائع على أيمانه قبل البيع، ولا المصرف على وعوده قبل الإقراض.

كلها بروباجندا. وليس على البروباجندا حرج.

- في دستور المدينة قانون خاص يحظر "التشكيك في الدعاية"، على غرار القانون الفرنسي الذي يحظر "التشكيك في الهولوكوست". وعلى المؤلفات والكتب التي تشكك في الدعاية أن تـُـنشر في الخارج وتبقى هناك، ويُستحسن أن يلحق بها المؤلف نفسه.

- يحق لكل صحيفة تخصيص 75% من مساحتها للدعايات. لا يحق للقراء الاعتراض.

- ....

أتساءل الآن عمّن يشتهي العيش في هذه المدينة...؟