أكتب مقال هذا الأسبوع من كوريا الجنوبية التي أصبحت اليوم من أكبر الدول الصناعية – يحتل اقتصادها المركز الخامس عشر دولياً (850 مليار دولار). فكيف تحولت خلال نحو نصف قرن من بلد فقير متخلف إلى هذا المستوى؟
تذكرت خلال هذه الزيارة ما تعلمته من أحد أهم الخبراء في شؤون كوريا الاقتصادية، حين أتاحت لي الفرصة في الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي أن أدرس مع البروفيسور Paul Kuznets وكان متخصصاً في شرق آسيا، خاصة كوريا. ويُعتبر كتابه Korean Economic Development: An Interpretive Model أحد الكتب الرائدة في هذا المجال.
وكان التحدي وقتها لنا ولأستاذنا هو محاولة تفسير فترة النمو الاقتصادي السريع في كوريا، إذ من بين جميع دول العالم، كانت معدلات النمو الاقتصادي فيها الأعلى لعدة عقود بلا منازع، بعد أن كانت من أكثرها فقراً.
ومما أثار الحيرة أن كوريا الجنوبية كانت قد خرجت من حرب ضروس في عام 1953، بخُفّي حُنين، ولم تكن مرشحة لغير الفقر والتخلف، فالحرب قد قضت على معظم بنيتها التحتية، في حين استحوذت كوريا الشمالية على المناطق الغنية بالموارد الطبيعية، مثل المعادن والأحجار الثمينة، والطاقة الكهرومائية، كما كانت معظم الصناعات الحديثة في مناطق كوريا الشمالية.
وأعود إلى حلقات seminars أستاذنا كوزنتس، حيث ناقشنا وقتها العديد من العوامل التي أثرت في النمو الاقتصادي الكوري، وحاولنا قياس تأثير كل منها، إذ أظهرت أبحاثه أن أكثر العوامل تأثيراً في تحقيق نمو كوريا السريع أربعة:
1. تنافسية العامل الكوري.
2. معدلات الاستثمار العالية.
3. التوجه نحو التصدير.
4. السياسة الحكومية النشطة التي تتدخل لدى الحاجة بقوة لدعم النمو الاقتصادي.
وأتناول اليوم تأثير قوة العمل الكورية في تحقيق ما يمكن أن يُعد حقاً معجزة اقتصادية. فكما أسلفت لم تترك الحرب لكوريا الجنوبية مورداً غير شعبها، ولكن هذا الشعب لم يكن يتمتع بسمعة عالية من حيث النشاط والانضباط. وكما يقول المؤرخ أندرو سالومون، الذي كتب عن تاريخ كوريا منذ عام 1864، نظر المراقبون الغربيون في القرن التاسع عشر إلى الكوريين كشعب متخلف كسول يعشش فيه الفساد، وفي القرن العشرين أضافوا إلى ذلك حب القسوة والنزاع.
وقد بدأ التحول بعد حرب 1953 مباشرة، إذ عممت أول حكومة كورية جنوبية التعليم، وخصصت نحو 20% من الميزانية لهذا الغرض. وتم القضاء على الأمية خلال وقت قصير نسبياً، وركز النظام التعليمي على تربية قيم معينة، مثل العمل الجماعي، والانضباط، والتركيز على تحقيق النتائج، وكان اليوم الدراسي والعام الدراسي طويلين جداً مقارنة بالدول الأخرى.
وما لم يتحقق بهذه التربية الصارمة في المدارس تحقق من خلال الخدمة العسكرية الإلزامية، التي رسخت المبادئ نفسها، أي الاعتزاز بالعمل الجماعي والانضباط، بالإضافة إلى حب الوطن (على نحو اعتبره الغربيون مبالغاً فيه).
وكانت هذه الصفات ضرورية وقتها لتحويل العمالة الكورية وصهرها في بوتقة الإنتاج الصناعي، بعد قرون من العمل الزراعي (كان أكثر من ثلثي عمال كوريا يعملون في الزراعة إلى عام 1960، في حين لا يتجاوزون 7% اليوم).
وفي حين اعتمدت كوريا الشمالية على النظام الشيوعي الذي يقوم على التخطيط المركزي والتأميم، اعتمدت حكومات كوريا الجنوبية في تحقيق أهدافها على القطاع الخاص بشكل رئيس، إذ أصبحت المصانع والشركات الخاصة شبه ثكنات عسكرية، وأصبح الولاء للشركة موازياً للولاء الوطني والولاء للمجموعة في الخدمة العسكرية. وحرصت الشركات على توثيق علاقات العمال بها، وتوثيق العلاقات بين أفراد فرق العمل والأقسام والإدارات فيها خلال الدوام وخارجه. واستخدمت الشركات ما يُسمّى بالأسلوب الأبوي لتعزيز ولاء العامل لها، من خلال اهتمام الرؤساء بمساعدة مرؤوسيهم ومساندتهم وقت العمل، ومشاركتهم في المناسبات العائلية والرياضية والثقافية، ولذلك قلما يترك العامل الكوري شركته وينظر بازدراء إلى الذين يكثرون من التنقل بين الشركات.
ولهذا لن تتعجب حين ترى أن ساعات العمل في كوريا هي الأطول بين الدول الصناعية، كما تشير تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
قد يفسر هذا التحول في تنافسية العامل الكوري الكثير من أسرار النمو الاقتصادي السريع في كوريا الجنوبية، ولكن يجب ألا نكون من السذاجة بحيث نغفل الأسباب الأخرى أو أن نغفل التضحيات الجسيمة التي دفعها العمال الكوريون لتحقيق هذا الناجح. وقد أعود إلى ذلك في مناسبة قادمة.