سؤال طرح قديما ونطرحه اليوم وغدا ومع كل سقوط في حفرة أو ارتقاء على كومة أو ارتطام بمطب، ومع كل إحساس بوخز الإبر في القلب شفقة على سيارة لم تكتمل أقساطها، ومع كل شعور بالغثيان من حالة الطريق، وإثر كل هبوط وصعود مفاجئ، وقبل كل شيء. لماذا؟

نحن ننفق أموالا طائلة على رصف الطريق وإعادة رصفها ثم صيانتها، ربما أكثر بكثير من تكاليف بنائها بمواصفات قياسية تحفظ تماسكها، وتؤمن وظيفتها. وإذا أضفنا إلى ذلك ما ينفقه سكان المدينة على صيانة السيارات التي تتضرر من رداءة الطريق، وعلى تكلفة أضرار الحوادث بسبب الطريق، وعلى علاج المصابين، وما يتكبده المجتمع من أعباء نتيجة تغيب الموظف أو العامل، لتجاوزت المعقول. كل ما يتطلبه الأمر هو التقيد بالمواصفات والمقاييس المعتمدة في بناء الطريق، وتفعيل مراقبة الجودة. كل ما يتطلبه الأمر هو أن نبدأ بخطوة جادة، ثم تدور العجلة تلقائياً.

في الدول مواصفات قياسية لكل منتج وسلعة تلج إلى أسواقها، وكذلك للخدمات التي تقدم على أراضيها، حماية للمستهلك وحفاظا على اقتصاد البلد. ومن الدول من يمتلك قاعدة بيانات متكاملة، وشاملة لكل شيء تقريبا، حتى لعدد الأحرف المسموح بوضعها على لوحات المرور الإرشادية والتحذيرية مقاييس ومواصفات. وفي المملكة العربية السعودية هيئة بكاملها تعنى بالمواصفات القياسية والجودة. ربما لم يكتمل بناء قاعدة بياناتها بعد، لكنها وكما يبدو تبني. وليس شمولية المقاييس أو اكتمالها هو موضوع حديثنا.

فرغم وجود الكثير من هذه المواصفات القياسية للسلع والخدمات في بلادنا إلا أنه لا حضور فاعلا لها على أرض الواقع. فالأسواق تعج بالسلع المقلدة والمنتجات الرديئة النكرة، أما الخدمات، ففي حالة شوارع المدينة أمثلة تغني عن البحث، وفيها دلالة واضحة على إهمالنا للمواصفات القياسية أثناء رصف الطريق، وغياب الرقابة بعد رصفه أو صيانته. ويبدو أن التاجر والمقاول والصانع يعملون وكأنما في مأمن من طائلة المحاسبة، لا يكترث لهذه المواصفات، ولا تهمه صحة الناس وسلامة المجتمع، ولا يُدخل في حساباته حجم الضرر الذي يسببه غشه على اقتصاد البلد، ما دام ربحه موفورا. سنضرب هنا أمثلة وقارنها إن شئت بالواقع المحسوس.

للطريق مواصفات قياسية تحكم عملية بنائه ورصفه. فعدد الطبقات التأسيسية ومادة التأسيس ونوعية التربة ومواصفات المادة الأسفلتية مقننة بما يتناسب ووظيفة الطريق، ويراعى في تحديدها أمور، منها نوع ووزن العربات المستخدمة للطريق وأعدادها، وبعد منسوب المياه الجوفية وتذبذب مستواها, من بين كثيرة أخرى. وتحكم طريقة بنائها معايير، كوزن آلية الدك المستعملة وعدد المرات التي تمر بها الآلة لدك التربة أو الأسفلت. ولتخطيط المسارات ووضع الإشارات الإرشادية والتنظيمية والتحذيرية دلائل ورموز لها معان يعرفها السائق تلقائيا فلا تفاجئه الطريق بما لا يتوقع. وحجم الخط ونوعه ولونه ولون الخلفية على اللوحات الإرشادية مقننة بما يضمن وضوحها وسهولة قراءتها ومعرفة معناها. وللإشارات الضوئية والعلامات الأخرى مواصفات مثل ذلك. فالتجانس هنا ضرورة يقتضيها المنطق وتتطلبها سيكولوجية السائق.

وللمطبات الصناعية التي توضع على الطريق لتنظيم السرعة مواصفات تقنن طولها وعرضها وارتفاعها وشكلها، ونوع المواد المستخدمة، ولون الطلاء، وكيفية رسم الخطوط، أو وضع الإشارات التحذيرية قبل المطب وعليه. ويؤثر نوع الطريق والسرعة المقننة عليه في كل هذه المواصفات التي توضع، مراعية صحة الإنسان، وبما يتسبب بالحد الأدنى من الضرر على عموده الفقري ومفاصله وصحته النفسية. وتراعي كذلك سلامة العربات، فالمطبات الحادة والمرتفعة تخرب النظام الهيدروليكي، ونظم المساعِدات، ومن يملك سيارة توظف النظام الهيدروليكي يعرف التكاليف التي يتكبدها في الصيانة نتيجة الصعود والهبوط على هذه الأكوام الخرسانية أو الجبال الأسفلتية. والإشارات التحذيرية بتغير ظروف الطريق ووجود العوائق ضرورية للتنبيه وأخذ الحيطة، وكم تسبب الوقوف أو التخفيض المفاجئ للسرعة في حوادث، وكان السبب الحقيقي من ورائه غياب التحذير وحضور المفاجأة.

ولأعمال الصيانة على الطريق مواصفات كذلك، فالعلامات التحذيرية، شكلها ولونها وبعدها عن مواقع الصيانة، محكومة بمواصفات تحمي الموجودين على الطريق وعمال الصيانة على حد سواء. وللمصابيح الكهربائية المستعملة للتحذير ليلاً مواصفات تقنن لونها وشدة وهيجها وأعدادها وبعدها عن الموقع وارتفاعها عن الأرض. حتى ملابس العاملين على صيانة الطريق، في بعض الدول، لها مواصفات لألوانها وأشكالها ومواد صناعتها، فهناك مواصفات لخوذة الرأس وخف القدم والقفازات ونظارات السلامة... إلخ.

وللرصيف ومواقف السيارات على جانبي الطريق مواصفات تقنن تخطيطها وتنظم وظائفها، كعرضها واتجاهها وزوايا ميولها. ومواصفات كذلك تحدد أماكنها وكيفية استعمالها. فلا يجوز مثلا وضع المواقف العرضية إلا على طريق تسير فيها السيارات بطيئة. ولا يجوز وضع اللوحات الدعائية على الرصيف وإعاقة حركة المشاة. ولا يجوز ترك الرصيف متسخا أو متهدما لأكثر من أيام محدودة. حتى مواقع حاويات القمامة على الطريق تنظمها مواصفات ومقاييس.

هذا قليل من كثير، فهل خطر لمسؤول في الأمانة، القيام بجولة في أحياء مدينة جدة وعلى شوارعها المتهالكة، والدخول إلى الأحياء السكنية في المناطق الفقيرة، ليلمس ما يكابده الناس ويشعر بالمعاناة التي يلاقونها، أم أنه لا يعنيه!... شوارعنا تشتكي، فمتى تحسم الأمانة أمرها؟