لا تكاد ثورة من ثورات العالم بعد القرن الثامن عشر تخلو من بصمات الثورة الفرنسية عليها، لأن الفرنسيين لم يثوروا فحسب بل صدّروا إلى العالم أنموذجاً جدلياً من الثورات، بأسبابها ومساراتها وآثارها وجرائمها أيضاً. وتواصى ثوارٌ كثيرون بعدها بموروثها الفلسفي والاجتماعي والآيديولوجي، ثم طبقوا الوصفة الفرنسية في بلدانهم ليخرجوا في الغالب بمستويات متقاربة من الخيبة، ومستويات متباينة من الدم. فالثوّار غالباً يحملون صفات جينية ونفسية متشابهة تجعلهم أبطالاً في بداية الثورة ومجرمين بعدها. وهذا الانقلاب الأخلاقي يشبه التفاعل الكيميائي الذي لا يحدث إلا في درجة حرارة عالية مثل التي تطلقها نشوة الانقلاب، ولذة السلطة، وهتاف الجماهير.
فلننظر إلى كاسترو إبان الثورة الكوبية والقيم العليا التي كان يشقّ بها طريقه خلال الأدغال باتجاه العاصمة هافانا حاصداً معه إعجاب الناس وتقديرهم، حتى إذا استولى على الحكم حصد أحلامهم، ومنعهم من أبسط أدوات الحضارة لئلا تفسد قيمهم الاشتراكية. الآن يبدو كاسترو شخصية كاريكاتورية لديكتاتور مخضرم بعد أن كان شخصية شعبية ملهمة وعابرة للقارات. ولربما أنقذ الموت رفيقه (غيفارا) من هذا المآل، فاعتزل الحياة في أوج كاريزماه الثوريّة قبل أن تتلوّث بالعظمة الزائفة والطغيان المركّب. خريطة العالم العربي السياسية والثورية تحمل لنا نماذج شبيهة أيضاً، وأرشيف الراديو يحمل لنا خطباً مضحكة، والواقع الحالي لدول عديدة يجد أن الناس لم يهتفوا للثورة إلا ليلعنها أبناؤهم من بعدهم.
منتقدو الثورة الفرنسية يذهبون إلى أنها ثورة استعجلت في الاندلاع قبل أن يكتمل النضج التنويري في المجتمع، الذي أرسى قواعده فولتير وروسو وغيرهم فيما صار يسمى بعد ذلك بعصر التنوير، فانطلقت بنصف النضج، ونصف الحكمة، مما أوقعها في أخطاء دموية فادحة ما زال المؤرخون مختلفين في ما إذا كانت مبررة أم لا في ظل النجاح الذي زعمه الثوار مذاك وحتى الآن. والسؤال التاريخي الجائز طرحه هو كيف سيكون شكل هذه الثورة لو أنها تريّثت قليلاً؟ أما السؤال الأخلاقي فهو: كم من العنف يمكننا تبريره عندما يتعلق الأمر بالثورات إذا كان الأمر مبرراً أصلاً؟
غاندي، رمز الثورات السلمية، لا يبرر العنف مهما كانت الأسباب، وحتى في مواجهة المستعمر الأجنبي فضلاً عن الطاغية الوطني. وقد استطاع بشخصيته الملهمة أن يخلص بلده من الاستعمار ولكنه لم يستطع بكل ما أوتي من تأثير شعبيّ أن يمنع الحرب الأهلية من الاندلاع والانقسام الباكستاني الهندي من الحدوث، مما فتح المجال لمنتقديه بأن يزعموا أنه لو استغلّ تأثيره الشعبي عسكرياً لتمكن من طرد المستعمر بوقت أسرع، ثم توجيه هذه القوة العسكرية في منع شبه القارة الهندية من الانقسام، ثم ضبط البلاد من بعدها لتتحول إلى قوة سياسية كبرى في ظل ظروف سانحةٍ آنذاك كما فعل الاتحاد السوفييتي.
ثوّار العنف أيضاً لم يقدموا للعالم ثورةً نظيفة ومعيارية يمكن الأخذ بها نبراساً للتخلص من وطأة الظلم دون ارتكابه. والثورة الفرنسية، كواحدة من أكثر الثورات التاريخية دمويّة وفظاعة، تكاد تكون محور هذا السؤال الأخلاقي حول مبررات العنف وحدود الظلم لأن العالم آنذاك كان قد بدأ فعلياً في تنفس هواء الحضارة والإنسانية والأخلاق العابرة للحدود والأديان والأجناس، وبدأ الناس بالفعل يطالبون بتحرير العبيد وإلغاء الطبقيات ومساواة الناس ببعضهم. وعلى الجانب الآخر من المحيط كان الأمريكيون قد كتبوا في رأس دستورهم الجديد عبارتهم الشهيرة (كل الناس خلقوا سواسية)، والتي تأثر بها الثوار الفرنسيون كثيراً في ثورتهم، وإلا فإن ثورات ما قبل ذلك لم تكن تضع الاعتبار الأخلاقي في حسبانها إلا في صحوة ضميرية مفاجئة لقائد، أو نزعة إنسانية عابرة لفيلسوف ما. ولكن الغرب آنذاك كان يودع عصور الظلام، ويخطو على أرض فلسفية حديثة نشأت خلال القرن السابع عشر مع تطور العلوم الذي حرك العقول وقدح زناد النقد والمساءلة، وحرّك الهوامد الثقافية البالية في أفكار الشعوب وأخلاقها.
هذا الوعي الحضاري النسبي هو الذي أوقع الثورة الفرنسية تحت نطاق المساءلة الأخلاقية بعد أن ذهبت سكرة الثورة الأولى وراح الثوار الجدد يتصرفون بشكل أكثر جبروتاً وتسلطاً من الحاكم السابق. تماماً كما حدث في أغلب الثورات العربية عندما تحول الثائر العظيم إلى طاغية أعظم. ولنتخيّل أن الثوار في فرنسا كانوا في بدايات ثورتهم يطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام، فإذا بهم بعد نجاح الثورة يخترعون المقصلة! ثم راحوا يجزون بها آلاف الرؤوس من المعارضين للثورة، بل بلغت ذروة خطة (الإرهاب) التي تبناها الثوار لتدعيم ثورتهم أن أعدموا، ليس فقط من ينتقد الثورة، بل حتى الأشخاص الذي لا يبدون حماساً كافياً لها. وصارت المقصلة المنصوبة في منتصف باريس تقطع كل شهر أكثر من ثمانمئة عنق، حتى اشتكى سكان الحي من رائحة الدماء وتراكم خثارها في الطرقات والأزقة.
الثورات، كما يثبت التاريخ دائماً، واحدة من أعقد الانعطافات السياسية في أي دولة ثورية، لأنها لا تحمل في جعبتها تغيراً في صولجانات السلطة والقيم السياسية فحسب بقدر ما تحمل انحرافاً حاداً (أو اعتدالاً حاداً) في الثقافة الجمعية لمجتمع كامل. فالذي يوحّد بين أفكار شعب بأسره إلى حد الاتفاق على الثورة لا بد أن يكون مؤلماً وشديد المرارة حد إفراغ الصبر من عروق الشعب، وإدخاله في حالة من الهيجان الحقوقي، وإحداث خلل في المعايير، وانعدام في التوازن، واندفاع عارم في غمار ثورة غير مضمونة النتائج، تعد بالكثير، ولا تفي غالباً. ولعل المقالة القادمة تناقش أسباب اندفاع الجماهير في مغامرات ثورية رغم عدم وجود نماذج تاريخية كافية تؤكد لهم أن الثورات كانت سبباً في توفير حياة أفضل.