عندما أمّت الدكتورة أمينة ودود الناس، رجالا ونساء، في صلاة الجمعة بإحدى كنائس أمريكا منذ خمس سنوات تقريباً، قامت الدنيا عليها ولم تقعد، وكتبت وقتها مقالا بعنوان (إمامة المرأة للرجال بالمسجد مرفوضة ولكن..) وشرحت هذه الـ "لكن" بذكر بعض الآراء الفقهية، فالإمام ابن حزم في كتابه "المحلى" نقل عن أبي حنيفة أنه أجاز ذلك في الفريضة مع الكراهة، وهذا خلاف رأي الجمهور الذي يرى أنه فيما عدا صلاة الفريضة فللمرأة أن تؤمّ النساء والصبيان وهو ثابت بفعل أمهات المؤمنين وغيرهن، كما أجاز فقهاء آخرون إمامة المرأة أهل دارها، بمن فيهم الرجال، لأن الافتتان بالمرأة هنا ممتنع. وأما رأي ابن تيمية فهو:(ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في المشهور عن أحمد) وفي "المغني" لابن قدامة:(وقال بعض أصحابنا يجوز أن تؤم الرجال في التراويح وتكون وراءهم).
في الحديث الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام أجاز للصحابية أم ورقة أن تتخذ مسجداً في بيتها وتجعل لها مؤذناً، وكانت تؤم أهل بيتها، نساء ورجالا، منهم المؤذن على الأقل، الذي قد لا يكون محرماً لها، فهذه الحال يجب ألا تكون موضعاً للجدل، ولذلك لا أدري ما الداعي لأن نقول إنه أجازه فقهاء رغم أنه واضح في الحديث الشريف، ولماذا غُيِّب هذا الحديث للدرجة التي لا يقبل معها رجل أن تؤمه زوجته في البيت حتى لو كانت أفضل منه قراءة للقرآن وأشد تقوى منه وأقدم منه هجرة، وهذه كلها من خصائص الإمام الذي يَفضُل الآخرين؟ ليس المقصود بالهجرة المعنى الحرفي للكلمة لكن المعنى أن المرأة قد لا تكون متمسكة بالدين أكثر من زوجها فحسب بل سابقة له بالعبادات والعمل الصالح أيضاً، هذا إذا لم تكن هي سبب هدايته وعودته إلى الله، ومع ذلك لا يمكن أن يقبل أن تقف أمامه أو يقف إلى يمينها لتكون هي الإمام، وهذا ليس موقف الزوج فقط بل موقف كل أهل بيتها من الرجال والمحارم، والسؤال: لماذا نحرم المرأة من هذا الفضل في حين أباحه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لها؟!
هذا السؤال الأول، أما السؤال الثاني فهو عن الحاجز الفاصل بين الرجال والنساء في المساجد عموماً، ما عدا المسجد الحرام والذي لا يوجد فيه حواجز كاملة – على حدّ علمي– وسامح الله من طالب بهدم الحرم ليبنى بطريقة لا يختلط الرجال والنساء معها في الطواف، مع أنه يجوز لهم أن يختلطوا حتى في الصلاة لضرورة الزحام، وقد فعلت ذلك في حجتي قبل الأخيرة حيث طلبت من محرمي أن يصلي إلى جانبي كي لا أفقده، كما صليت بعض الأوقات في الشارع القريب من الحرم، وبسبب عدم إمكانية التفريق بين الرجال والنساء كان محرمي يصلي بجانب رجل وأصفّ أنا بمحاذاته وتصف بحانبي امرأة وهكذا، بحيث لا يوجد التصاق بين الرجل والمرأة في الصلاة إلا إذا كان محرماً لها، وهذا الالتصاق كان أحد الأخطاء التي حصلت في الجمعة المشهورة للدكتورة ودود، وإذا كان الاختلاط في أماكن العمل جائزاً لأنه بالأساس عمل دنيوي، فهو على عكس الصلاة في المسجد والتي تقتضي الخشوع والابتعاد عن كل المشتتات الدنيوية بما فيها الفتنة بين الجنسين.
الحاجز بين الرجال والنساء لم يكن موجوداً في العهد النبوي، فصفوف الرجال في المقدمة وصفوف النساء خلفها، حتى لو كانت قريبة جداً من بعضها، وهذا ما يفهم من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قَامَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الْفِتْنَةَ الَّتِي يُفْتَنُ بِهَا الْمَرْءُ فِي قَبْرِهِ فَلَمَّا ذَكَرَ ذ?لِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً حَالَتْ بيني وبين أَنْ أَفْهَمَ كَلاَمَ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا سَكَنَتْ ضَجَّتُهُمْ قُلْتُ لِرَجُلٍ قَرِيبٍ مِنِّي: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ في آخِرِ قَوْلِهِ؟ قَالَ:(قَدْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيباً مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ)، وهذا التقارب إن لم يكن في حال الصلاة فهو على الأقل في حال استماع إلى خطبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك أن أسماء سألت رجلا قريبا منها.
آخر أخبار إمامة المرأة للرجال جاءت من بريطانيا هذه المرة، فقد أمّت راحيل رضا، الكاتبة الكندية من أصول باكستانية، المصلين ليوم الجمعة الماضي وألقت خطبة الجمعة أمام جمع مصلّين مختلط من رجال ونساء؛ وكانت هذه السيّدة الستينية سبق أن أمّت المصلين في كندا، وقد وصلت إلى بريطانيا بدعوة من "المركز الثقافي الإسلامي" لتفتتح مؤتمراً دولياً تحت عنوان "الإسلام: طريق إلى الأمام"، والصور التي عرضتها القنوات الفضائية خلت من الأخطاء التي حصلت مع إمامة الدكتورة ودود، فلم يُر امرأة كاشفة رأسها وتصلي، وكان الرجال في صفوف منفصلة عن النساء، وإذا كان الرأي الفقهي القائل (لا يجوز إمامة المرأة لصلاة الجمعة لأن الجمعة ليست فرضاً على المرأة من الأصل) هو الأصح، فإن للمجتمعات الغربية ثقافتها التي تعترف بحقوق المرأة دون حدود، وعلى هذا فإذا لم يكن للمرأة مثيل في فقهها وعلمها بين الرجال فهي الأحق بإمامة الصلاة وإلقاء الخطبة، وما دام الأمر مختلفاً فيه من الأصل فلماذا الحجر على المرأة المسلمة في الغرب؟!
أكتب هذه المقالة بعد أن أديت صلاة المغرب في مسجد تابع لمركز تجاري، فكان تكبير الإمام لا يصلنا نحن النساء، خصوصاً عند الرفع من السجود، ولا نرى حركات الإمام بسبب الحاجز، فرفعنا ثم ركعنا حتى اكتشفنا أنه يقول (الله أكبر) بينما كنا نظنّ أنه سيقول (سمع الله لمن حمده) وهكذا سبقنا الإمامَ ونسأل الله المغفرة، ولعلنا نعود إلى السنة ونترك البدعة، فما حصل معي هذه المرة يتكرر كثيراً مع نساء غيري وفي مساجد مختلفة، علماً بأن هناك آراء فقهية تقول إن الاقتداء بالإمام غير جائز إذا لم يكن المقتدي يرى حركات الإمام ويسمع صوته، فكيف نوفّق بين هذا الرأي ورأي من أوجد كل هذه الحواجز؟!