يقول البير كامو الروائي والفيلسوف الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للأدب في جملة له ما مفاده: "إن الأكثر ثباتا ووثوقا مما أعرفه حول الأخلاق وما تفرضه من واجبات يعود الفضل فيه لكرة القدم". كان كامو في سنوات شبابه لاعبا هاويا لكرة القدم.
وقبل أيام انتهت بطولة كأس العالم لكرة القدم في جنوب أفريقيا ونالت إسبانيا "بجدارة" اللقب للمرّة الأولى في تاريخها الكروي.
وما بين مباراة الافتتاح والمنافسة النهائية تسمّر ما مجموعه حوالي مليار شخص، كما تتفق التقديرات، أمام شاشات التلفزيون. وقف أبناء البلدان المشاركة في البطولة وراء فرقهم الوطنية بحماس وشجّع الآخرون هذا الفريق أو ذاك لأسباب متنوّعة تعود للانتماء القومي مثل الدعم العربي للفريق الجزائري أو للانتماء إلى قارّة كتشجيع أبناء أفريقيا لفرق بلدانها أو لموقف "طبقي" مثل الوقوف إلى جانب البلدان الفقيرة بمواجهة البلدان الغنية أو لأسباب "سياسية" مثل دعم أي فريق يلعب ضد الفريق الأمريكي أو أحيانا لسبب "غير مفهوم" منطقيا كدعم أحد أفراد أسرتي للفريق البرازيلي ضد الجميع وحزنه العميق عند خروجه من المنافسة. بكل الحالات إنها تعبيرات عن مشاعر إنسانية مهما اختلفت مرجعياتها.
لكن البون شاسع بين الأمس واليوم. في الأمس كانت معرفة نتائج مباريات كأس العالم تحتاج إلى أيام. وكانت الفرق المشاركة قد تبحر لأسابيع طويلة في رحلة شاقّة مضنية للوصول إلى البلد المنظّم. وكانت قمّة "النقل المباشر"، قبل التلفزيون، هي في الالتفاف حول مذياع، إذا توفر، في أحد البيوت لسماع أخبار سير المباريات وتخيّل الملعب واللعب واللاعبين.
اللاعب البرازيلي الشهير بيليه الملقّب بـ"الجوهرة السوداء" يقدّم في كتابه عن سيرة حياته توصيفا جميلا لأجواء "العيد" والتآلف التي كانت ترافق تلك المناسبات.
اليوم اختلف الأمر وأصبح المشاهدون "يرون" في لحظة الفعل ملامح وجوه اللاعبين وانفعالاتهم ويعيشون أدقّ التفاصيل. التقدّم هائل والمتعة كبيرة بلا شك. لكن للميدالية وجهها الآخر. وما قاله البير كامو عن عالم الاستقامة ودروس الواجب قد فارق للأسف ملاعب كرة القدم.
مثالان صريحان وعليهما مئات الملايين من الشـهود. مـانويل نوير، هذا هو اسم حارس مرمى الفريق الألماني في بطولة كـأس العالم الأخـيرة. وأثناء مباراة فريقه ضد الفريق الإنجليزي في دور ربع النهائي سدد لاعب "خصم" كـرة قوية ارتطمت بالعارضة ثمّ دخلت مرماه بوضوح. لكنه تصرّف سريعا وكأن شيئا لم يحدث وضاع الهدف على الإنجليز لكون أن حكّام المباراة لم يروا حقيقة ما جرى. ثمّ صرّح نوير لاحقا: "لقد أدركت أن الكرة تجاوزت الخط داخل المرمى وأعتقد أن السرعة التي أرسلت فيها الكرة إلى الملعب خدعت الحكم". لقد غشّ نوير إذن عن وعي. ولم يغشّ فحسب، لكنه افتخر بما فعل.
ومثال آخر هو أن يد اللاعب الفرنسي تييري هنري هي التي أعطت بلاده بطاقة التأهيل ـ التي لم تكن تستحقّها كما أثبتت الوقائع على أرض الملعب لاحقا ـ لبطولة كأس العالم في جنوب أفريقيا و"سرقتها" من أيرلندا.
وأمثلة أخرى كثيرة ليس أقلّها شهرة يد مارادونا التي "دخلت التاريخ" عندما ساهمت في تسجيل هدف ضد بريطانيا في "مونديال" عام 1986.
الغش مخالف لجميع الاعتبارات الأخلاقية وهذه الأمثلة كلّها تقول شيئا واحدا هو أن كرة القدم قد خرجت من عصر البراءة عندما دخلت في عصر المال الذي لا يتقن إلا قاموس الكسب والفوز ومبدأ "الغاية تبرر جميع الوسائل". يقولون إن الرياضة هي مرآة المجتمع، واللاعبون بشر كغيرهم.
المشكلة هي أن معسكر مشجعي "الغشاشين" يؤيد الغش، يستحسنه، يصفّق له، يجده "شطارة" دون أي اعتبار للحقيقة. ليس المهم أن تسرق تحت أنظار الآخرين، ولكن المهم ألا يراك "الناطور".
والمشكلة الأكبر والأخطر هي أن استعراض الغش في مباراة رياضية يشاهدها عشرات، بل مئات الملايين، هو أخطـر بكثير من الغش في الحياة اليومية للبشر. والعبرة في الدرس والنموذج.