(فقه التوقع) أو (الفقه التقديري) أو (الفقه الافتراضي) فقه على الضد من العشوائية والاستسلام لمقتضيات الواقع أو الذي سيقع. وهو في جوهره مجموعة البحوث المتعلقة بالتطور المستقبلي للبشرية، والمستمدة من المقاصد الشرعية، والمستندة على أصول الفقه، والقواعد الفقهية. مما يسمح باستخلاص عناصر تنبؤية، ويحاول سبر أغوار المستقبل بهدف التعامل معه, ليس برفضه وإنما بمحاولة تحسينه وتطويره وتثقيفه لمسايرة الجديد المتجدد، ومعايشة المستجدات، ومراجعة الأصول والأطر التي تحكم الواقع لاستنباط آليات التعامل مع الوقائع.
فقه التوقع نوع من الفعل الإيجابي الذي وإن تأخرت وقائعه، سيساهم في التطوير والإضافة, وشتان ما بين الفعل ورد الفعل، وشتان بين من ينتظر ما يأتي به المستقبل، ومن يسارع نحو المستقبل مستخدماً أدواته وآلياته. المعضلة فيه أنه ليس بالأمر السهل أو المعتاد تبعاً لحقيقة جوهره السابقة؛ لأنه ـ والكلام للمختصين المتخصصين ـ دائم التحضير والانتباه والتحوط والتغيير, وعدم الركون إلى السائد, واختراق المناخات القائمة, وإيجاد أجواء تساعد على التغيير وتدعو إليه، والحفز باتجاهاته، ومن ثم فإن العالم المستشرف الذي يقوم بهذا الدور ويمارس هذه المهمة في المجتمعات يقوم بعمل شاق، وغالباً ما يكون هؤلاء المستشرفون عرضة للأذى والنبذ والكراهية والتبرم من قبل عامة المجتمع, كذا الدوائر النافذة فيه، ما لم يكن الاستشراف متغلغلاً في مفاصل تلك الدوائر، وهذا لا يتم إلا في مجتمعات قد قطعت أشواطاً طويلة في الوعي بشرائع دينها. ومن أجل الحيادية في فقه التوقع علينا تجنب الأفكار المسبقة والاندفاع لرؤية بعض الأمور التي تناسب أفكارنا, وتتجاهل وتنبذ الأخرى التي تزعجنا. فمثلا تصنيف الناس تبعا لمذاهبها وعقائدها أمر خاطئ، وتفسير الأمور حسب الموروث الثقافي والمفاهيم والبُنى الفكرية الثابتة أمر خاطئ أيضاً.
فقه التوقع يقتضي الحيادية والإيمان بأن التغير هو أحد سنن الحياة، ومعلوم أن الفرق بين الأرصاد الجوية ورسم مستقبل الأمة هو عينه الفرق بين التنبؤ والاستشراف، وللأسف فنحن ما زلنا أسرى التنبؤ وردود الأفعال القاصرة والمتأخرة دوماً, وما زلنا نفتقر للخطط البديلة التي يمكن أن نلجأ إليها عندما تفشل الخطة الأساسية نتيجة أحد المتغيرات. هذا النوع من الفقه بلا شك لابد أن يتم وفقاً لخطوات مرحلية ممنهجة تبدأ بتعريف المشكلة، ثم تحديد المتغيرات، ومن ثم تأتي مرحلة تجميع المعلومات لنستطيع في النهاية بناء الخيارات المستقبلية الممكنة. فقه التوقع ضرورة لبناء الفرد والأسرة والمجتمع وتطورهم في شتى القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفكرية، فالمجتمع الذي لا يستطيع رسم خطوات المستقبل سيغوص في هموم الحاضر، وسينحصر في ثقافة الماضي، ومن ثم يكون التأخر رهينه. وهذا ما تبدو عليه وللأسف الكثير من حالات مجتمعاتنا العربية والإسلامية، والواقع أثبت ويثبت أن المجتمعات الناجحة هي التي تنتهج الاستشراف كأسلوب حياة.
فقه التوقع مسألة أصيلة في كتاب الله, وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {.. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً..} بناء على توقع, وفي الحديث الموقوف على سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه, الذي رواه الإمام البخاري وغيره: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟" بناء على توقع أيضا. قد يسأل سائل فيقول: لماذا نستشرف المستقبل فقهياً؟ والجواب عن هذا السؤال هو: مادام المستقبل مجهولاً، فلماذا نحن لا نتصالح معه؟ لماذا لا نسهم في أداء واجب تقريب الشرع إلى الخلق، وتقريب الخلق إلى الخالق سبحانه وتعالى؟.