إن الذين يربطون بين إحلال السلام في الشرق الأوسط وبين العلاقة الاستراتيجية بين أمريكا وإسرائيل، أناس يجيدون قراءة وفهم التاريخ.
فالعلاقة الاستراتيجية التي تربط إسرائيل بأمريكا علاقة سياسية فريدة النوع والطبيعة على مدار التاريخ، وخاصة التاريخ الحديث.
فلو استعرضنا علاقات الدول بعضها ببعض، حتى تلك الدول التي تشترك مع دول أخرى بأحلاف سياسة وعسكرية ومعاهدات اقتصادية، فإننا لن نجد دولة ترتبط بدولة أخرى رباطاً استراتيجياً، كما ترتبط أمريكا بإسرائيل، أو إسرائيل بأمريكا.
حظ العرب العاثر
إن حظ العرب العاثر، وهم يهمُّون منذ مطلع القرن العشرين، لبناء حضارة عربية إسلامية جديدة، تكون بمثابة ثقافة ثالثة، أمام ثقافة القوة، التي كانت تمثلها أمريكا والاتحاد السوفييتي السابق، وهو ما كان يُعرف بثقافة محور واشنطن- موسكو، وأمام ثقافة البقاء، التي تمثلها شعوب العالم الثالث، وهو ما كان يُعرف بمحور طنجة- جاكرتا.. نقول إن حظ العرب العاثر، قد أصبح عاثراً، نتيجة لهذه العلاقة الاستراتجية بين أمريكا وإسرائيل، والتي نتج عنها بالتالي العُسر السياسي والاقتصادي والثقافي، الذي نعاني منه الآن، والذي – ربما - كان رئيساً في عدم وضع أقدام العرب على أول درجات سلم الحضارة والرقي.
العجز الذاتي العربي
فمنذ أن رُفع شعار"التحييد الأمريكي" من قبل العرب، لم يفعل العرب منذ حرب حزيران 1967 حتى الآن أي عمل سياسي عربي يدعو أمريكا إلى أن تتراجع عن العلاقة الاستراتيجية مع إسرائيل، وتقف موقف الحياد في الصراع العربي- الإسرائيلي.
ربما كانت هناك أعمال سياسية عربية كثيرة، منذ حرب حزيران 1967 حتى الآن، ولكن هذه الأعمال لم تكن أعمالاً إيجابية، تدفع أمريكا إلى الاقتراب من "الصفر السياسي" أو السياسة الأمريكية الحيادية البيضاء!
سبب العلاقة الأمريكية - الإسرائيلية
إن السلبية العربية الفاشلة، منذ ما يزيد على ستين عاماً، في المجال السياسي والاقتصادي والفكري، هي التي دفعت أمريكا سنة بعد أخرى، للابتعاد عن "الصفر السياسي" مع إسرائيل، الذي نحلم به.
ففي عام 1948، لم تكن العلاقة الاستراتيجية بين أمريكا وإسرائيل عميقة ووثيقة كما كانت بعد عام 1967 مثلاً.
وفي عام 1973، وصلت العلاقة الاستراتيجية بين أمريكا وإسرائيل إلى الحد الذي اعتبرت معه إسرائيل - استراتيجياً واقتصادياً وعسكرياً - ولاية رئيسة من الولايات الأمريكية، تدافع عنها أمريكا وترعاها، كما تدافع وترعى أية ولاية أمريكية أخرى.
والسؤال الآن:
هل كان للعرب دور في ابتعاد أمريكا عن "الصفر السياسي"، في علاقاتها مع إسرائيل، أو ما يُطلق عليه "نقطة التحييد السياسي" التي يحلم بها العرب، منذ أكثر من ستين سنة؟
لا بديل لأمريكا غير إسرائيل
لقد ساهم العرب مساهمة فعالة منذ عام 1948 وحتى الآن في توثيق العلاقة الاستراتيجية بين أمريكا وإسرائيل.
صحيح أن أمريكا خلال الفترة الماضية، كانت دولة ذات سياسة ظالمة، ومستبدة، وتكيل بمكيالين - كما نردد دائماً - وتنطلق في سياستها الخارجية من منطق حكم القوي للضعيف.
ولكن، لو وجدت أمريكا لوبياً عربياً فعالاً في واشنطن، ودولة قوية، وذات شفافية عالية، وتمارس هامشاً كبيراً من الديمقراطية، وذات صحافة حرة، ورأي عام مؤثر، يستطيع أن يُقيل حكومات من كراسيها، لما ترددت لحظة في إقامة علاقات استراتيجية معها – ربما - أقوى مما هي عليه الآن مع إسرائيل.
وهذا القول عن العجز العربي والتخلف العربي، لا يعطي لأمريكا صك البراءة، مما تفعله في فلسطين، وخارج فلسطين، بقدر ما ينير جانباً من الحقيقة الواقعة على الأرض.
سلام العرب بضاعة رخيصة
بعد ما جرى بالأمس لـ "قافلة الحرية"، ارتفعت بعض الأصوات العربية، التي لا تملك من أمرها غير رفع الصوت العالي، مناديةً بسحب المبادرة العربية للسلام التي قدمها خادم الحرمين الشريفين عام 2002 في القمة العربية في بيروت، ووافقت عليها الدول العربية، ورفضتها إسرائيل – كالعادة – وهي التي أصبحت من القوة والاستعداد العسكري والاقتصادي، بحيث تتمكن من رفض أي سلام مع العرب مقابل الأرض. فإسرائيل اليوم – وليس بالأمس - تعتبر أن السلام مع العرب بضاعة رخيصة وخاسرة. والدليل ما تمّ من سلام مع مصر والأردن.
فإسرائيل تعتبر أن الأرض بضاعة ثمينة ورابحة. وهي بالتالي ليست – الآن بعد تجربتي مصر والأردن - من الحماقة بمكان، استبدال السلام العربي الرخيص والخاسر، مقابل الأرض الثمينة، بعد أن نالت مقابل الانسحاب من سيناء الغالية، وباقي الأراضي المصرية المحتلة، سفارة محاصرة ومعزولة، وغير ذات قيمة سياسية في القاهرة، وكذلك في عمَّان. وكفى إلى هذا الحد من السلام والتطبيع. ولن يكون الحال أفضل من ذلك، مع أية دولة عربية أخرى توقّع مع إسرائيل معاهدة سلام مشابهة. وفي ظني، أن إسرائيل سوف تبقى مُصرَّة على عدم مقايضة السلام بالأرض مع العرب، بموجب مبادرة السلام العربية 2002، إلى أن يعترف الشارع العربي والحكومات العربية، بحق إسرائيل في دولتهم والتخلّي عن فكرة وأدبيات "الاغتصاب" و"سرقة الوطن"، و"الوطن المحتل" و"الدولة الدخيلة".. إلخ. وهذا يتطلب زمناً طويلاً، وأجيالاً متتابعة.
ما هو البديل الآن؟
ولكن بالمقابل ماذا لدى العرب الآن، غير هذه المبادرة؟
وماذا قدم المطالبون بسحب هذه المبادرة، من مبادرات، وخطط، وأفكار جديدة بديلة؟
إن سحب المبادرة العربية للسلام 2002، يعني تعرية العرب سياسياً بالنسبة للقضية الفلسطينية أمام العالم، وعدم وجود ستر يسترهم، ولو كان هذا الستر ورقة توت!