بعد سنتين من المكاتبات السرية والعلنية بين محكمة العدل العليا بباكستان برئاسة محمد افتخار تشودري ورئيس الوزراء سيد يوسف رضا جيلاني أدانت المحكمة رئيس الوزراء وطلبت منه أن يعلمها كتابيا عن سبب رفضه مخاطبة السلطات لفتح قضايا الفساد ضد رئيس الجمهورية آصف علي زرداري بما في ذلك تورطه في غسيل أموال المخدرات في مدة أقصاها 27 فبراير الجاري، مؤكدةً أنها ستصدر حكمها النهائي حول قضية التحقير في 28 من فبراير الجاري.
ويتوقع أن يكون حكم المحكمة ضد جيلاني السجن لمدة 6 أشهر على الأقل وإسقاط عضويته في البرلمان، وهو ما يعني سقوط الحكومة الحالية وتشكيل حكومة جديدة.
زرداري وأميركا.. الهدف
بدأت محكمة العدل العليا برئاسة محمد افتخار تشودري قضية تحقير المحكمة بمخاطبة رئيس الوزراء جيلاني طالبةً منه مخاطبة السلطات السويسرية لفتح قضايا ضد زرداري، وعندما رفض جيلاني ذلك بعد سنتين من المراسلات والمرافعات في المحكمة أدانته بتحقير المحكمة.
ويبدو جليا أن الهدف من القضية ليس جيلاني وإنما زرداري الذي زادت قوته على الرغم من شتى تهم الفساد ضده وأصبح من أكبر مراكز القوى في باكستان التي تدعم سياسة الإدارة الأميركية الرامية إلى ترويض المؤسسة العسكرية وإخضاعها للحكومة المدنية.
وساعدت المخابرات العسكرية الباكستانية (آي.أس.آي) محكمة العدل العليا من خلال تنظيم حرب نفسية واسعة النطاق ضد زرداري كاشفةً ارتباطه بوكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي.آي.أيه) ودوره السري في عملية جيرونيما في 2 مايو 2011 التي أدت إلى قتل أسامة بن لادن في ثكنة أيبت آباد دون علم المؤسسة العسكرية.
ثم كشف الجهاز العسكري فضيحة ميموجيت، حيث كتب زرداري رسالة لرئيس اللجنة المشتركة للجيش الأميركي الأدميرال مايكل مولن طالباً منه منع رئيس أركان الجيش الجنرال إشفاق كياني من تنظيم انقلاب عسكري ضد النظام الحاكم، وتطورت القضية بصورة درامية عندما اتهم جيلاني المؤسسة العسكرية والمخابرات العسكرية بأنها "دولة وسط دولة" وأن حكومته غير قادرة على السيطرة عليهما وأنهما (الجيش والمخابرات العسكرية) يخرقان بنود الدستور والقانون التي تنص على أن تأتمر المؤسسة العسكرية بأوامر الحكومة المدنية.
ورد رئيس أركان الجيش الجنرال أشفاق كياني ورئيس المخابرات العسكرية الجنرال أحمد شجاع باشا بكتابة شكوى ضد زرداري وجيلاني يطلبان محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، لأنه آثر خدمة المصالح الأميركية على حساب المصالح القومية العليا لباكستان.
الأحزاب الدينية
وأيدت المؤسسة العسكرية في موقفها الأحزاب الدينية التي أخذت تنظم تظاهرات تندد بزرداري وتورطه بالفضيحة رافعةً شعارات تنادي بقطع العلاقات الدبلوماسية بين باكستان والولايات المتحدة الأميركية.
كما تحركت وزارة الخارجية التي تسيطر عليها المخابرات العسكرية منذ عهد الجنرال برويز مشرف فصرحت وزيرة الخارجية حنا رباني كهر بأن البرلمان ينظر حاليا في موضوع قطع العلاقات الدبلوماسية مع أميركا نظرا لسياستها المناهضة لباكستان ومحاولتها إبدال باكستان بالهند في معالجتها للملف الأفغاني.
كما نظمت الأحزاب الإسلامية بلاهور تظاهرات نددت بالغارة الأميركية على وكالة مهمند التي قتل فيها 24 من الجيش والأجهزة الأمنية بتاريخ 25-26 نوفمبر الماضي وحرقت العلم الأميركي وصورة مجسدة للرئيس الأميركي باراك أوباما رافعةً شعارات تطالب بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أميركا وأخرى تؤيد الجيش وتدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في باكستان.
الطعن صحياً في زرداري
واستغلت المؤسسة العسكرية والأحزاب الدينية مرض زرداري فأخذت تطعن بحالته الصحية وتطلب من محكمة العدل العليا عزله من منصبه بموجب المادة 47 من الدستور الباكستاني، وعندما تحدى زرداري قرار محكمة العدل العليا وبّخته المحكمة مذكرةً إياه بأنه لا يحق له التعليق على أمر هو قيد المرافعات في المحاكم العليا، وأنها تنظر أيضا فيما إذا التزم زرداري باليمين الدستورية التي أداها عند تسلمه رئاسة الجمهورية (البند 42 من الدستور) الذي ينص على ضرورة التزام رئيس الجمهورية بصفات الصدق والعدل والأمانة واحترام مؤسسات الدولة بما في ذلك السلطة القضائية.
انتهج زرداري سياسة مقاطعة محكمة العدل العليا مما جعلها تحذره بأنه في حالة استمراره في رفض الإجابة على التهم الموجهة ضده بموجب فضيحة (ميموجيت) فإنها ستفسر ذلك الصمت المتعمد على أنه إقرار بالجرم وستصدر أحكامها حسب قانون محكمة العدل العليا لسنة 1980.
جيلاني يعلن الحرب
وعندما أدرك رئيس الوزراء جيلاني أن الأمور تسير لصالح الجيش بدأ بحملة معاكسة، فاتهم المؤسسة العسكرية بحماية أسامة بن لادن في مجمعه في مدينة يبت آباد قبل الغارة الأميركية التي قتلته، وتساءل جيلاني في جلسة خاصة للبرلمان "لماذا رفض الجيش منح تأشيرات دخول باكستان للخبراء الأميركيين ولكنه سمح لأسامة بن لادن بالسكن في أيبت آباد بصورة غير شرعية؟"
فتصدى له رئيس أركان الجيش الجنرال أشفاق كياني نافيا اتهاماته مؤكداً أن الحملة ضد الجيش تهدف إلى توجيه الأنظار عن الأزمة الحقيقية التي تواجهها الحكومة أمام البرلمان ومحكمة العدل العليا حول تورطها في فضيحة ميموجيت.
كما امتثل رئيس أركان الجيش الجنرال أشفاق كياني ورئيس المخابرات العسكرية الجنرال أحمد شجاع باشا أمام لجنة التحقيق في فضيحة ميموجيت والمنبثقة عن البرلمان، حيث زودا اللجنة بما لديهما من أدلة تثبت تورط الحكومة.
كما قرنت المؤسسة العسكرية الحملة ضد الجيش بأميركا علنا عندما رفض الناطق العسكري الجنرال أطهر عباس تحقيق البنتاغون في الهجوم الأميركي على مواقع الجيش في وكالة مهمند، حيث ذكر التحقيق أن الهجوم حصل بموجب خطأ من القوات الأميركية والباكستانية، وقال "إن باكستان تفكر في إعادة النظر في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية" دون أن يذكر تفاصيل ذلك، وهو تهديد مبطن بأن الجيش سينهي التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية.
ولتقوية النظام المدني الحاكم دخلت إدارة باراك أوباما على الخط وعرضت أن ترسل وفدا أميركيا لباكستان لتعويض عائلات الجنود الـ24 الباكستانيين، كما عرض البنك الدولي قرضا لباكستان قيمته 5,5 مليارات دولار تسدد قيمته خلال سنتين لإصلاح البنية التحتية المتضررة من جراء فيضانات 2010-2011 بما في ذلك 4 مليارات دولار للقطاع الباكستاني الخاص.
وأعلنت إدارة الرئيس الأميركي بتاريخ 24 ديسمبر 2011 إيقاف هجمات طائرات دون طيار على منطقة القبائل الباكستانية، نظرا لتأثيرها السلبي على الحكومة المدنية وتقويتها المؤسسة العسكرية التي تدين الهجمات وتعتبرها أنها نتيجة اتفاقية سرية بين نظام الحكم المدني والإدارة الأميركية لاستهداف الجيش والمؤسسات الأمنية في منطقة القبائل وإضعافها بما يحقق المصالح الأميركية.
وعلى الرغم من التنازلات الأميركية إلا أن المؤسسة العسكرية ترى أن موقف أميركا لم يتغير، لأنها وراء عمليات حركة طالبان باكستان ضد الجيش والأجهزة الأميركية.
انتقاد رسمي
زرداري وجيلاني انتقدا المؤسسة العسكرية من التلفزة الرسمية بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين بعد المائة على ميلاد مؤسس باكستان محمد علي جناح، حيث خاطب رئيس الجمهورية آصف علي زرداري الأمة طالبا منها حماية النظام الديمقراطي في باكستان، مشدداً على ضرورة أن يحصل أي تغيير من خلال صناديق الاقتراع وليس من خلال الرصاص، في إشارة واضحة لمحاولة الجيش التخلص من النظام الحالي بفعل تورطه بالفساد وتفضيله المصالح الخارجية على المصالح القومية العليا.
وفي المناسبة نفسها صرح رئيس الوزراء سيد يوسف رضا جيلاني بأن النظام سيكمل مدته البالغة 5 سنوات ولن تتمكن القوى غير الديمقراطية من عزله، مشيرا هو الآخر للجيش ضمنا بعد أن اتهمه قبل ذلك بأنه "دولة وسط دولة" ولا يخضع لسلطة الحكومة المدنية.
انقسام "الشعب"
واجه حزب الشعب الباكستاني الحاكم (مجموعة زرداري) نكسة كبرى بفعل سياسة المواجهة مع القضاء والمؤسسة العسكرية.
فقد استقال من الحزب وزير التعليم السابق في وزارة سيد يوسف رضا جيلاني السيد سردار آصف علي وطلب علنا من رئيس الجمهورية الاستقالة من منصبه متهما إياه بأنه أساء إلى سمعة رئيسة الوزراء السابقة بي نظير بوتو بتورطه في فضيحة ميموجيت وحول حزب الشعب الباكستاني إلى "حزب زرداري".
واتهم سردار.. زرداري بالإساءة للشعب الباكستاني والتسبب في نشر الفقر والمجاعة بدلا من خدمة الشعب، كما يقتضي منشور حزب الشعب الباكستاني الانتخابي بذلك. وقال إنه اتصل بزرداري وجيلاني وبلاول زرداري وشقيقة زرداري فريال تالبور وعرض عليهم حالة الفقر والفاقة بين أوساط الشعب ولكنهم لم يعيروه اهتماما.
كما اتهم حزب زرداري وقيادته الحالية بأنها تعمل على تحويل باكستان إلى "إقطاعية" يرتعون فيها كيفما يشاءون.. كما انفصل من الحزب وزير الخارجية السابق محمود قريشي ووزيرة الإعلام السابقة الدكتورة فردوس عاشق أعوان وقيادات أخرى بسبب تورط زرداري في ميموجيت.
نواز شريف يقلب المعادلة
لكن الساحة السياسية شهدت ما لم يكن في الحسبان حينما تحالف نواز شريف مع جيلاني وصوت في البرلمان بتاريخ 15 فبراير لصالح التعديل العشرين في البرلمان الذي يضفي الشرعية على انتخاب 28 عضوا من البرلمان في انتخابات تكميلية أجريت بموجب القوائم الانتخابية المزورة التي أعدها الجنرال برويز مشرف سنة 2008 والتي ألغتها محكمة العدل العليا، لأن التحقيق أثبت أن تلك القوائم تضم 35 مليون صوت مزور.
ويقوم الاتفاق السري بين نواز شريف وسيد يوسف رضا جيلاني على أن المجموعة البرلمانية للمعارضة بقيادة شريف في انتخابات مجلس الشيوخ المزمع عقدها في الثاني من مارس المقبل مقابل أن يعلن جيلاني عن عقد انتخابات مبكرة بعد وضع الميزانية العامة للفترة (الفاتح من يوليو- 2011- 30 يونيو 2012).
ويعتقد أن السبب في دعم المعارضة لجيلاني يعود لوجود مخاوف لدى نواز شريف من صعود حزب الإنصاف بقيادة عمران خان لاسيما بإقليم البنجاب بدعم من المؤسسة العسكرية.
جرأة سياسية
وأدى تحالف نواز شريف مع جيلاني إلى جرأة سياسية غير مسبوقة ضد المؤسسة العسكرية، فقد فاجأ جيلاني المؤسسة العسكرية عندما عزل وكيل وزارة الدفاع، الجنرال خالد لودهي، المقرب من المؤسسة العسكرية متهما إياه بأنه غير كفء، ورد رئيس أركان الجيش الجنرال أشفاق كياني بعقد اجتماع طارئ لقادة الفيالق العسكرية، حيث تقرر تعيين العميد سرفراز علي، قائدا لفيلق راولبندي بإشارة يفهم منها أنه في حالة تمادي جيلاني في سياسته ضد المؤسسة العسكرية فإن العميد سرفراز علي يمكن أن يقود الفيلق العاشر (فيلق راولبندي المعروف بأنه فيلق الانقلابات العسكرية) لقلب نظام الحكم المدني.
كما أصدر الناطق العسكري الجنرال أطهر عباس بيانا فند فيه تصريحات رئيس الوزراء سيد يوسف جيلاني التي قال فيها إن الجنرال أشفاق كياني والجنرال أحمد شجاع باشا خاطبا محكمة العدل العليا حول فضيحة ميموجيت مباشرة دون التشاور مع الحكومة، وقال البيان "إن كياني وباشا أرسلا ردهما لمحكمة العدل العليا عن طريق وزارة الدفاع."
ورقة.. الرداء الأحمر
ومن المؤشرات الأخرى لتوجه جيلاني ضد المؤسسة العسكرية استخدامه ورقة زعيم الرداء الأحمر اسفنديار ولي خان، فقد طرح رئيس حزب عوامي الوطني البشتوني العلماني قضية في الجمعية الوطنية طالباً من كافة الأعضاء التصويت على سيادة البرلمان وضمان إكمال حكومة سيد يوسف رضا جيلاني مدتها القانونية وأمدها 5 سنوات.. والخطوة موجهة ضد محكمة العدل العليا والمؤسسة العسكرية التي تتهم زرداري وجيلاني بالخيانة العظمى لتورطهما في فضيحة ميموجيت.
جيلاني.. يتحدى المخابرات
وفي خطوة جديدة وغير مسبوقة كتب مستشار رئيس الوزراء لحقوق الإنسان مصطفى نواز كهوكهر مذكرة لرئيس المخابرات العسكرية الجنرال أحمد شجاع باشا طلب منه معاملة المعتقلين لدى الجهاز حسب بنود القانون والدستور. كما رفعت دعوى في محكمة العدل العليا بتاريخ 13 فبراير الجاري ضد المخابرات العسكرية تتهمها بالمسئولية عن المفقودين. وهذه قضية خطيرة للغاية وتنسجم مع السياسة الأميركية بتصنيف الجهاز العسكري على أنه منظمة إرهابية لتورطه بدعم المنظمات الإرهابية، لاسيما شورى كويتا التي يرأسها الملا محمد عمر وشبكة سراج الدين حقاني المتحالفة مع تنظيم القاعدة في منطقة القبائل المتاخمة لبلوشستان (فاتا).
فضيحة "ميمو جيت".. جدل مستمر
تعود بداية القضية إلى أوائل نوفمبر الماضي، عندما نشرت وسائل الإعلام الباكستانية والأميركية مذكرة سرية منسوبة للسفير الباكستاني في واشنطن، حسين حقاني، ينقل فيها تخوفات الرئيس الباكستاني، من احتمال قيام الجيش بانقلاب عسكري ضده.
• اتهم فيها الرئيس آصف زرداري بأنه طلب من الولايات المتحدة المساعدة في الحد من نفوذ العسكريين في باكستان.
• نجحت القضية في هز الحكومة وتعميق الشرخ بين الإدارة المدنية، والجيش.
• الشاهد الرئيسي رجل الأعمال الأميركي منصور إعجاز، رفض الإدلاء بشهادته، "خوفًا على سلامته الشخصية".
• طالبت الولايات المتحدة الأميركية بمحاكمة عادلة ونزيهة وسريعة لسفير باكستان السابق في واشنطن، حسين حقاني في القضية.
• وافقت المحكمة العليا الباكستانية في يناير الماضي، على تمديد الإطار الزمنى المحدد للجنة القضائية للتحقيق فى ملابسات الفضيحة.
• رجل الأعمال منصور إعجاز هو الذي سرب المذكرة لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية في 10 أكتوبر الماضي.
• وافقت اللجنة القضائية على تسجيل أقوال الشاهد في الفضيحة عن طريق دوائر تلفزيونية مغلقة 22 فبراير الجاري.