اعتقال سيدة القاعدة الأولى بالمملكة (أم الرباب) يحتم ضرورة إعادة النظر في إستراتيجية الحرب على الإرهاب التي يخوضها الوطن منذ سنوات عديدة خاصة في ظل إدخال العنصر النسائي في بلد يصعب فيه حتى على الجهات الأمنية متابعة النساء فيه بشكل فعال نتيجة لعادات وتقاليد أضحت ليست معوقاً لتنمية البلاد فحسب، بل وتمثل خطراً كبيراً عليه.
وسواء أُلقي القبض على أم الرباب أم غيرها فما هي إلا واحدة من تنظيم ما يزال يفرّخ مجموعات بعد الأخرى من التكفيريين والإرهابيين، إلا أنه وللأسف الشديد فإن وضع المرأة في المملكة على كافة الأصعدة يساعد على استغلالها والاستفادة من ذلك الوضع من قبل تنظيم القاعدة أو غيره من التنظيمات الدموية الأخرى، وهي نقطة ضعف كبيرة تزيد من تعقيد الجهود الأمنية التي يبذلها أبطال هذه البلادـ وعلى أية حال، فإن أم الرباب ـ ورغم هذه النقلة النوعية لتنظيم القاعدة - ليست هي مجال حديثنا هنا، وإنما موضوع المجتمع برمته وثقافته التي أوجدت هذه المرأة ومثيلاتها في بلد يُفترض أن تتوافر فيه كل أجواء السلام والوئام اللذين لطالما دعا وسعى لهما حكام هذه البلاد من عهد الملك المؤسس (رحمه الله) وإلى عهد ملك الإنسانية والإصلاح (أيّده الله).
والواقع أن تصريحات تنظيم القاعدة بعد اعتقال سيدته الأولى وبالذات التهديد بالقيام بعمليات انتقامية لا بد أن يُؤخذ بمحمل الجد، لاسيما وأنه سبق ذلك محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها مساعد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف قبل فترة. ولذلك، فإنه حري بأن يدرك الجميع أن الوضع حرج وأن هذه الحرب، وللأسف الكبير، يُتوقع أن تكون طويلة الأمد وربما تأخذ من حين إلى آخر أشكالاً جديدة ونقلات نوعية في الإجرام والقتل والعنف والدمار.
وبما أن المرحلة القادمة تمثل تحدياً جديداً في هذه الحرب، فلا بد من إعادة النظر في الإستراتيجية التي اُتبعت في محاربة الإرهاب منذ ظهوره وانتشار هذا الوباء وحتى الآن. ولأن الوطن وقادته وأبناءه هم محور موضوعنا واهتمامنا هنا، فلا بد من قول الحقيقة مهما كانت مرارتها وقسوتها، فالواجب الوطني يحتم على الجميع ذلك.
لقد أثبتت التجارب أنه باستثناء الجهود الأمنية الكبيرة وغير المسبوقة التي بذلتها وما تزال تبذلها الدولة في محاربة الإرهاب، فإنه وحتى الآن لم تتم معالجة هذه القضية وأسبابها من جذورها، إذ تم التعويل فقط على برنامج المناصحة، وهو الواضح أنه يتصدى لأعراض المرض دون محاولة علاج المرض نفسه، وبعض الإصلاحات البطيئة والمحدودة، رغم ما يُردد ويُقال في هذا الشأن، حيث إنه وعلى الرغم مما بُذل من جهود كبيرة في عهد خادم الحرمين الشريفين (رعاه الله)، إلا أن المعوقات كبيرة وكثيرة مما جعل هناك فجوة ما بين الإرادة السياسية وما هو منجز على أرض الواقع، إذ إن المشكلة هي أكبر وأعقد من ذلك بكثير، لكونها مشكلة ثقافة باتت تحتضر. وعلى الرغم من صحة ما يُردد من أن الفكر لا يُقارع إلا بالفكر، إلا أن المشكلة التي تعيشها البلاد هي ليست الفكر وحده وإنما الثقافة التي تسود وتحكم المجتمع والتي نتاجها هو هذا الفكر المتطرف، حيث إن ثقافة المجتمع (وهي حصيلة لتراكمات اقتصادية واجتماعية وغيرها) هي عليلة وغير صحية البتة. بيد أن أي محاولة لإعادة بناء أو تصحيح مسار ثقافة مجتمع ما، لا بد أن يصاحبها قرارات كبيرة وجريئة وتضحيات من جانب الدولة والمجتمع معاً، وإلا لن تتحقق النتائج المنشودة، والأمثلة كثيرة على أزمة هذه الثقافة ومنتجاتها ومنها قضية المرأة التي تعيش وضعاً صعباً وقاسياً للغاية نتيجة لعادات وتقاليد بالية أكل عليها الدهر وشرب، الأمر الذي جعلها تعيش حياة مشوشة، مما قد يجعلها خطراً في المستقبل شأنها شأن أم الرباب، وأم هاجر الأزدي وغيرهما ما لم تُعطَ المرأة حقوقها كاملة وتُرفع عنها يد الوصاية التي فرضها عليها المجتمع عنوة.
والمثال الآخر يتمثل في وضع الشباب السعودي الذي لا يقل صعوبة عن وضع المرأة، إذ يتوجب مشاركتهم في عملية بناء المجتمع وتطويره وأن يكونوا لاعباً أساسياً في هذا الجانب، ولذا لا بد أن يُخاطبوا باللغة التي يفهمونها وليس التي نريدها نحن، ولذلك لا بد من وضع هذا الملف في سلم الأولويات حتى لا نواجه جيلاً آخر ليس من الإرهابيين فحسب، بل من المتمردين والخارجين عن القانون، إنه جــــيل (الإنترنت) والحياة السريعة المتلاحقة الذي سيرفض أية محاولات لسلب حريته والوصاية عليه ويرفض كل الموروثات الاجتماعية السائدة، وهذا قد يكون الخطر الحقيقي القادم ما لم يتم تدارك الأمور والعمل على الإصلاح الشامل والعاجل أيضاً، لأن حركة الحياة العصرية تتطلب السرعة ولا تحتمل أي تأخير أو تأجيل للأمور.
ولذلك، فقد حان الوقت للانتقال بالإصلاح الذي بدأه خادم الحرمين الشريفين (حفظه الله) إلى مرحلة جديدة، مرحلة تأخذ في الاعتبار أن هناك ملفات كبيرة ومهمة وحساسة على كافة الأصعدة لابد أن تُعالج بشكل غير تقليدي وعملي، وأول هذه الملفات وأهمها المرأة والشباب، حيث إنهما يمثلان الثقل الأكبر للمجتمع وإنه لن يكون هنالك حل ناجع لهما ما لم تُفتح الأبواب والنوافذ أمامهما ليستنشقا الهواء الطبيعي الذي منحهما إياه رب العباد وتُعطى لهما حرياتهما وكامل وحقوقهما التي سُلبت منهما نتيجة لثقافة الإقصاء والوصاية وتداخل العادات والتقاليد مع قيم الدين الحنيف، وأنه حان الوقت لإعادة صياغة البنية الثقافية للمجتمع من جديد للتصدي للمشكلة من جذورها وبناء مؤسسات المجتمع المدني وتفعيل دورها وهذا قد يستغرق وقتاً طويلاً ويتطلب خطوات كبيرة إلا أنه لا مناص من هذا الخيار ليشفى المجتمع من مشاكله المزمنة وليعود بعدئذٍ معافى وسليماً.
حمى الله هذا الوطن وقادته وأبناءه ليس من الإرهاب والإرهابيين فحسب، وإنما من هم أشد خطراً من هؤلاء، هؤلاء الذين يعيشون بيننا ويرفضون سنن الحياة في التغيير والتطور والإصلاح والانفتاح والتعايش مع الآخر ويرغبون أن يعيدوا الوطن والمواطن لقرون خلت.