عرضت قناة (إم. تي. في) الأمريكية التلفزيونية ذات الطابع الموسيقي والتوجه الشبابي، لقاء مع شابين وفتاة سعوديين. وظهر اللقاء ضمن حلقتين من برنامج True life "الحياة الحقيقية" تحت عنوان Resist the power  "مقاومة القوة". وقد عبر الشابان والفتاة بكل صراحة وجرأة عما يتمنون ممارسته في حياتهم اليومية بدون أن يقوم أحد بمعارضتهم أو شجب وإدانة اختيارهم، الذي يعدونه حقهم الطبيعي في الحياة، ما داموا لم يتعرضوا لأحد أو ينتهكوا حقوقه. ما قاله الشابان والفتاة وعبروا عنه، ليس موضوع المقال؛ ولكن ردات الفعل عليه هي موضوعه الذي سيناقشه. وردات الفعل ستكون حسب تقريرين عن الموضوع، نشر الأول في صحيفة المدينة، بتاريخ 3 مايو بعنوان "مواطن ومواطنة يتقدمون غداً بشكوى ضد قناة أمريكية أساءت للعادات والتقاليد السعودية". والثاني نشر في صحيفة الرياض في تاريخ 20 مايو بعنوان "قناة MTV الأمريكية تستغل (شبابنا) لتشويه صورة المجتمع السعودي".
وحسب ما أوردته "المدينة" في تحقيقها بأنه قد "أنهى عدد من السعوديين صياغة مذكرة دعوى تمهيدا لتقديمها رسميا إلى هيئة التحقيق والادعاء العام غدا الاثنين ضد إحدى القنوات الأمريكية وشابين وفتاة سعودية ظهروا في حلقة من برنامج القناة الشهير "الحياة الحقيقة"، الذي تم تصويره في مدينة جدة بطريقة مسيئة للعادات والتقاليد السعودية - بحسب المتبنين للدعوى - والذين أنشؤوا موقعا للحملة على الفيس بوك تجاوز عدد المنضمين له أكثر من 1300 مواطن ومواطنة طالبوا بمحاكمة القناة والشابين والفتاة". وذكر المحتسبون"أن هدفهم من الدعوى هو إيقاف التطاول على العادات والتقاليد السعودية المستمدة من الدين الإسلامي الحنيف خاصة حلقة البرنامج التي ظهرت بدعوات مخالفة للثوابت الوطنية...".
وقد علقت "الرياض" في تحقيقها بالتالي: "لا شك أن هناك قضايا حقيقية، تطرق لها الفيلم الأمريكي، إلا أنها تندرج تحت (كلام حق يراد به باطل) والباطل هو الدعاية الأمريكية التي تهدف إلى تشويه صورة العرب وكذلك تحويل مجتمعات العالم العربي والإسلامي إلى مجتمعات استهلاكية وغير منتجة ومقلدة، مسخاً لهويتها الضاربة في أعماق التاريخ".
ويذكر تحقيق صحيفة المدينة أن الشبان الثلاثة ذكروا أنهم مهتمون بأغاني "الروك" إلا أن التشدد يعيقهم ويقف ضد التفكير في إقامة مثل هذه الحفلات وهو ما حملهم على السفر إلى إحدى الدول المجاورة لإقامة الحفلة، فيما الفتاة تؤكد أنها لا ترتدي العباءة السوداء التقليدية، وتفضل تصميم عباءتها بألوان مختلفة وزاهية، وهي ترى أن "الانسان يجب أن يكون نفسه ومظهره.. يجب أن يعبر عن شخصيته وذاته"، إلى جانب قيادتها للدراجة مع زميلتها في شوارع جدة بعد تنكرهما بزي رجالي".
هذان التقريران يمثلان ردات فعلنا التي اعتدنا على تكرارها واجترارها بلا كلل أو ملل، أو حتى تفكير في مدى فاعليتها، كلما عرض برنامج عن مجتمعنا نرى نحن أنه حساس بالنسبة لنا، على شاشة تلفاز غير سعودية، برغم فشلنا الذريع وعدم نجاحنا لا في إيصال صوتنا لمن نوجه صوتنا له، ولا حتى في معالجته لدينا، إن كان فعلاً يستحق المعالجة. فمثل هذه المحطات والوسائل الإعلامية، التي من وقت لآخر تتناول مواضيع تكون حساسة بالنسبة لنا، تعتبرها هي مواضيع عادية، اعتادت على تناول مثلها وأكبر وأشنع منها من مواضيع أكثر حساسية تتعلق بمجتمعاتها، وبكل رحابة صدر وأريحية. فإذا لم تكن لدينا القدرة على إيصال احتجاجاتنا، فلماذا إذاً لا نستفيد منها، في تناولها بجدية وطرحها للنقاش والدراسة، ولا ندفن رؤوسنا في الرمال كالنعام؟
ومثل هذه المواضيع هي مواضيع جادة لا نجرؤ نحن على الاعتراف بها، ناهيك عن مواجهتها وطرحها للنقاش، ويبدو ذلك من خلال ردات فعلنا المتشنجة عليها. فلو طرح برنامج تلفزيوني موضوعا غير صحيح وغير جاد، مثال، بأن مئات النساء السعوديات يلدن يومياً في المملكة على أرصفة الشوارع، لابتسمنا تعجباً لمثل هذا الخبر الذي نعلم أكثر من غيرنا أنه غير صحيح، ولما قابلناه بتشنج ومطالبات برفع حسبة على من أعد مثل هذا التقرير.
فالجدير بمن هزهم برنامج (إم. تي. في) أن يطالبوا بعقد ندوات وورش عمل وطنية تجمع خبراءنا التربويين والمثقفين والدعويين والكتاب والإعلاميين لمناقشة القضية التي طرحها البرنامج؛ والتأكد أنه ليس هنالك فجوة سحيقة تفصل بيننا وبين أولادنا وبناتنا. وإذا توصلوا لنتيجة مفادها أن هنالك فعلاً فجوة بيننا وبينهم؛ فيجب أولاً رفع دعوى حسبة على كل من أهدروا المليارات تلو المليارات على مناهجنا التعليمية والتربوية والدعوية والإعلامية؛ والتي نتج عنها هذه الهوة التربوية السحيقة بيننا وبين أبنائنا وبناتنا، أما إذا صممنا على أن نربيهم على طبائعنا وعاداتنا وتقاليدنا "الضاربة في أعماق التاريخ"، لنجعل منهم نسخا كربونية لاهثة من أعماق التاريخ، في عصرنا المتغير والمتطور بسرعة خيالية، فالكارثة ستكون أكثر وأفظع وأشنع، شئنا أم أبينا.
وسنكون مخازن مواد إعلامية مسلية ومضحكة، ومبكية بنفس الوقت، لكل محطات تلفزة العالم ووسائل إعلامها الباحثة عن إبراز التناقضات والغرائبيات في العالم، سواء رفعنا عليهم حسبة أم لم نفعل، جلدنا أولادنا وبناتنا آلاف الجلدات أم لم نفعل. وهذا مصير كل من يبحث عن تلميع القشور وترك الجذور للسوس ينخرها ويعبث بها، فأولادنا أكبادنا لن يقبلوا بأي حال من الأحوال أن ننتقي لهم عادات وتقاليد ضاربة في أعماق التاريخ، ونلبسهم إياها بالقوة ونؤطرهم على تمثلها والتمسك بها؛ ضد كل قوانين التطور وسنة التغيير.
صدق المفكر عبدالله القصيمي، رحمه الله، عندما قال، كل الشعوب تلد أجيالا جديدة، إلا نحن نلد آباءنا وأجدادنا، وذلك بغرس طبائع آبائنا وأجدادنا بهم وحثهم ومطالبتهم بالتمسك بها والحفاظ عليها؛ ولذلك فشعوب العالم تتطور ونحن نتخلف. وألم يقل قبله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه "لا تربوا أبناءكم على طبائعكم، فقد خلقوا لزمان غير زمانكم"؟ ونحن قد اعتبرنا أن عادات وتقاليد آبائنا وأجدادنا دين، لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من بين يديه، وحسبناها من ثوابتنا الدينية والوطنية، نطالب الصغير قبل الكبير بالتمسك بها والعض عليها بالنواجذ، وقد قبلناها نحن الكبار، لأنه لا خيار أمامنا غيرها آنذاك؛ أما أولادنا وبناتنا، في عصر العولمة وثورة الاتصالات، فمن الصعب عليهم التخلي عن معطيات عصرهم، التي تمثل روحهم وطموحاتهم، واختيار مزاج الماضي الضارب في أعماق التاريخ، بمعطياته التي زلت وولت.
فعذراً أبناءنا وبناتنا، فنحن من صنع الهوة بيننا وبينكم ، ونحن من أغلق أمامكم خيارات العصر وحشركم بمستودعات خيارات الماضي، وغيرنا من فتح أمامكم خيار عصركم، فاخترتم ما تواءم مع مزاجكم. نحن من حرمكم باسم حراسة الفضيلة من أي لهو بريء؛ وعليه من أوقعكم بالرذيلة، إن كان ما تطالبون به رذيلة! فمن حقكم أن ترفعوا علينا حسبة، كلما علا صوت منا ضدكم. وشكراً ألف شكر لكم MTV، إن كنتم أصدقاء أم كنتم أعداء، فجزى الله خيرا كل من أهداني عيوبي.