فيلم وثائقي هامشي ومهزول الإنتاج، يُربك نسق الجمود، ويُزعزع من طمأنينة القوم. هكذا كان عنوان المرحلة الماضية العريض والبائس في آن. إزاء هذا الجدل المرير، والتراشق اللفظي، قد لا يصح سوى مداواة الأنفس بالتي كانت هي الداء.. أي بإنتاج المزيد والمزيد من الأفلام الوثائقية، وغير الوثائقية، المحلية المضمون والتوجّه، التي تستعرض مجريات الواقع وتُحرّض على استنطاق دوائرنا الاجتماعية.
في معرض الدفاع عن "حرية التعبير"، والمناداة بعدم مصادرة "مجريات الواقع"، دائماً ما يلوذ فريق الممانعين، أصحاب النظرة السوداوية في تقييم الأمور، برفع سؤالهم "الانتقاصي" الشهير: "ماذا صنعتم لأمتكم؟ هل صنعتهم لها سيارة أم طيارة؟".. وهذا سؤال من تركيبة مصفوفة مُضللة لا يؤدي إلا لجدلٍ عقيم. فحسب نظرية "التنافسية النسبية" الاقتصادية الشهيرة (Comparative Advantage)، لا ينبغي للسعودية مجرد التفكير في تبني خيار تصنيع المعدات أو الآليات الثقيلة، حيث الأميز والأوفر لها، إخلاصها لإنتاج ما تجيد صنعه وتصديره بشكل أكثر كفاءة، كصناعة البتروكيماويات وتصدير المشتقات النفطية، مقابل استيرادها لاحتياجاتها الاستهلاكية المتنامية من المعدات والآلات والعربات الثقيلة.
المؤشرات الاقتصادية تقول إن السعودية لا تملك أي ميزة تنافسية ترجح خيار تصنيع السيارات كخيار اقتصادي استراتيجي أصيل. نحن لا نملك المواد الخام للتصنيع، ولا نملك التقنية المعرفية لذلك، ولا نملك ترف إهدار أموال طائلة لعقدين آخرين من الزمان لأجل بناء رصيد تراكمي فيما يُعرف بـ"منحنى الخبرة" (Learning Curve)، ناهيك عن تخلف البنية التحتية والفوقية لدينا، فلسنا نملك أية مراكز أبحاث علمية وتقنية في الجامعات أو الشركات الكبرى للبحث والتطوير، وبداهة أن الأيدي العاملة الرخيصة المتوفرة في سوق العمل، إنما تأتينا مستوردة بالضرورة من البؤر والبلدان التي تمتاز آنياً بقدرات التصنيع الاقتصادي التنافسي!
في المقابل من كل هذا، يبدو خيار صناعة السينما على العكس من ذلك تماماً. ففي سوق يشكل الشباب فيه أكثر من ثلثي كتلته الديموغرافية النامية، وترتفع فيه معدلات الاستهلاك وتعلو فيه محركات القوى الشرائية بشكل شديد الإغراء والجاذبية.. وفي مجتمع صاعد تعوزه الأنماط والمنتجات والمرافق الترفيهية المعرفية النوعية، يبدو خيار اتجاه السعودية نحو "توطين" صناعة السينما كاتجاه استراتيجي، مسألة صائبة تماماً.
إن تبيئة وتطوير صناعة الأفلام الجادة في الداخل السعودي، مسألة تحملُ أبعاداً إيجابية على كافة المستويات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحتى التربوية.
علينا أن نتحرر من قيود الريبة والتوجس والشك وسد الذريعة. فلا يصح أن نزهد في شأن الإنفاق الحكومي أو في شأن تطوير الأنظمة الهادفة إلى تطوير مَناخات الاستثمار وجلب أموال القطاع الخاص ورجال الأعمال المُغامرين. هل يجب دائماً أن نتذكر ما جاء في المادة التاسعة والعشرين من النظام الأساسي للحكم للمملكة العربية السعودية، حيث "ترعى الدولة العلوم والآداب والثقافة، وتعنى بتشجيع البحث العلمي وتصون التراث الإسلامي والعربي، وتسهم في الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية".. هل يمكن التقليل من قيمة "أداة" السينما كوسيط معرفي بارع لتحقيق نص وروح هذه المادة الدستورية العظيمة .
ثم ليس ثمة معطى واحد صريح يُبرر ترددنا في خوض هذا المجال. إن نظام الثورة في إيران، مُسجّل لدى وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي فيه، ما يفوق على الأربعمائة مُخرج ومُبدع، يعملون في حقل الإنتاج السينمائي بالرغم من كل المعوقات والمضايقات السياسية والمادية، استيعاباً منهم للفرص والدلالات الهائلة التي ترفدها السينما في مضامير القوة الناعمة وتجسير الهوة بين الأمم والشعوب. لعله من هذا يمكن فهم الحضور البارز لوكيل الوزارة لشؤون السينما شفاد شاماخدري اللافت طيلة مهرجان كان السينمائي الأخير.
وفيما ندخل كأمة سعودية، دورة جديدة من التاريخ، حيث تتبلور فيه ملامحنا الوطنية الجديدة والمشتركة، بات علينا أن نستثمر في الأدوات المعرفية والإبداعية الحديثة بما يُلائم مآل شخصيتنا الحضارية الجديدة. نحن بحاجة ماسة لأعمال إبداعية تعبر عن رؤيتنا للذات وللعالم الفسيح بلغة سينمائية متجاوزة، جديدة، ومرتبطة بالضرورة بروح العصر.
إن مجتمعنا المتردد، وطبقات المواطنين الشباب الكثيفة والنامية – والحائرة -، خليقة بمنتجات سينمائية محلية ضافية تتوجه إليها، وتملأ احتياجاتها. أفلام تعبق بروح الشباب، بالمغامرة الجمالية، وتظفر بالتقنيات الجديدة، بالتجريب، بقضايا المجتمع المحلي الساخنة، وبأحوال العالم الراهن.
نحن نقول بضرورة التوجه نحو بناء مقومات واعدة لـ"صناعة السينما" بالسعودية، لأنه خيار استراتيجي للأجيال القادمة، ومطلب حضاري، وميزة اقتصادية تنافسية، وقوة ناعمة مغمورة، نخسر كثيراً حين نفرط في استثمارها!