التحولات والتغيرات الكبرى التي تشهدها خارطة العالم العربي تبرهن على أن الجمود والتخاذل مهما لازم الأمة الإسلامية فإنه لن يبقى، فلا بد من أن تستفيق من سباتها وتنهض من جديد كأمة سباقة لترسيخ مبادىء العدل والمساواة وبث روح التسامح والمحبة بين الإنسان وأخيه. وأجزم بأن أوروبا اليوم ما كانت لتكون بهذا المستوى من التقدم والرقي لولا فضل الله عليها بتمكينه الأمة الإسلامية من التوسع بالفتوحات إلى قلب أوروبا لتخليص أبنائها من الجهل والاستعباد وتحرير عقولهم من الهرطقات الكنسية التي ابتدعها القساوسة والرهبان.
لقد تسيدت الأمة الإسلامية العالم بأسره في ذلك الزمان بعد أن جعلت من التعاليم الربانية دستوراً تستقي منه شؤونها اليومية كافة، ولم تدع – في ذلك العصر – شاردة ولا واردة إلا وضعتها تحت مجهر النهج المحمدي لتدرأ الشبهات وتؤسس للأجيال اللاحقة من خلال الحوادث والملمات، نبراسها ما جاء به الرسول الكريم من قيم وتعاليم تسمو بها النفس البشرية عن الأطماع والأهواء الشيطانية.
لقد مرت الأمة الإسلامية بجملة من الانتكاسات منذ أن امتد نفوذها إلى العالم الغربي، وكان أشدها تأثيرا وإيلاما سقوط غرناطة في عام 1492 الذي أعقبه جلاء المسلمين من آخر معاقلهم في بلاد الأندلس، ثم تلا ذلك سلسلة من الإخفاقات والانكسارات المتتالية التي دونها التاريخ على مدى أكثر من ستة قرون متعاقبة. ويعزو الكثير من المؤرخين انحدار الحضارة الإسلامية لسبب جوهري يتمثل في انحراف قادتها السابقين عن المقاصد النبيلة التي أتى بها الدين الإسلامي، حيث تنافسوا على تسييس جوهر الدين الإسلامي خلال عصور مختلفة من التاريخ. ومتى انحرفت الحضارة عن القيم والتعاليم التي أُسست عليها كان مصيرها إلى الزوال أقرب. وفي هذا يحضرني قول المؤرخ الغربي الشهير أرنولد توينبي: "إن العلاقة بين الدين والحضارة مشابة لعلاقة المقدمة بنتيجتها، فالدين العظيم لا بد أن ينتج عنه حضارة عظيمة توازي ما يحتويه هذا الدين من عظمة، وإذا لم تتحقق هذه المعادلة فلا بد من وجود خلل ما يعيق تحقيقها". فالقيم والمعتقدات الدينية هي أهم المرتكزات التي تشكل الإطار العام لثقافة أي مجتمع، فإذا صحت هذه القيم والمعتقدات انعكست على كل جوانب الحياة الأخرى، وإذا فسدت انتشر الظلم والفساد كنتيجة لمقدمتها، فأغلب المجتمعات العربية والإسلامية تعيش الآن حالة مزرية من الانحدار على كافة الأصعدة، نتيجة لفقدان هويتها الإسلامية التي أسسها نبي العدل والرحمة. ويعزى ذلك الانحدار إلى غياب الشخصية الملهمة عن المشهد السياسي في الوطن العربي والإسلامي. فالشخصية الملهمة، أو ما اصطلح على تسميتها في العالم الغربي بالكاريزمية (charismatic leader) تكاد لا توجد في العالمين الإسلامي والعربي لولا بعض النماذج التي أحيت بعض الشيء من الإرث النهضوي للحضارة الإسلامية في بلدانها. ويأتي في مقدمتهم البروفيسور محمد مهاتير كصاحب تجربة رائدة في الأخذ بأسباب التطور للتحول من بلد متخلف إلى بلد متطور خلال عقد من الزمن دون أن يحاكي النموذج الغربي بقيمه ومعتقداته الدينية! وهنا يحق لي أن أتساءل: لماذا غابت الشخصية الملهمة عن مجتمعاتنا منذ انتهاء الخلافة الراشدة؟ وهل اختفاؤها هو نتيجة للمقدمة؟ (وأقصد هنا أن أسباب الخلاف التي أدت إلى الفتنة الكبرى كانت مقدمة لكل ما حدث في الأزمنة التالية من نكوص وتراجع حضاري كبير للأمة الإسلامية). وأيضا يحق لي أن أتساءل: لماذا لم نبادر في البحث عن أسباب التطور التي جعلت من الغرب أنموذجا للتفوق الحضاري بين شعوب الأرض قاطبة؟ وهل للتخصص دور في ابتعاد النخب الدينية عن مشاكل وقضايا التنمية وإعراضهم عنها؟ لماذا لا نرى قيمنا ومعتقداتنا الدينية تتجسد على أرض الواقع؟ أم إنها مجسدة كمقدمة ونتيجة من حيث لا نشعر؟
حقيقة يجد المرء نفسه في حيرة دائمة حينما لا يجد إجابات مقنعة لكل تلك الأسئلة رغم وضوحها وبساطة مفرداتها! إن التفاؤل المفرط بالربيع العربي قد لا يحقق آمال وتطلعات الشعوب العربية، خاصة أن تجربتها القاسية في الكفاح ضد المستعمر الغربي لم تحقق سوى استعمار من نوع آخر ظل ينهب مقدرات بلدانها تحت غطاء الشعارات الإسلامية المسيسة. فلتكن العودة للقيم والمبادىء الربانية التي أتى بها الرسول الكريم مقدمة، لتعود الأمة العربية والإسلامية إلى سابق عهدها كنتيجة لهذا العهد المجيد.