لم تستطع ريتا بيكون (28عاماً) وزميلتها لوريدانا وسنتيني (27عاماً) وهما إيطاليتان غاية في الأدب والثقافة أن تخفيا سعادتهما الغامرة بارتدائهما العباءة السعودية لأول مرة في حياتيهما, رغم نوبة الضحك والدهشة التي تنتابهما أثناء النظر للمرآة خاصة في بداية الأمر, فتجربة الحجاب الإسلامي لم تكن واردة في مخيلتهما فضلاً عن الالتزام بها صباح مساء لمدة 8 أيام, وهي الفترة التي قضتاها في السعودية للمشاركة بورقة عمل في المؤتمر الدولي الأول للتراث العمراني في الدول الإسلامية والذي أقيم في الرياض مؤخراً.
لقد أتاح هذا المؤتمر الفريد والذي يُعتبر الأهم والأضخم ـ كما أجمع الكل ـ في تاريخ تنظيم المؤتمرات والملتقيات الوطنية العديد من الفرص والمعارف والتجارب والخبرات, خاصة في مجال السياحة والتراث, وتحديداً في عالم التراث العمراني. وقد حظي هذا المؤتمر الدولي في نسخته الأولى بحضور لافت ومهم, سواء من الوزراء والسفراء والخبراء والمختصين في التراث العمراني, كما شاركت أكثر من 56 دولة في فعاليات وأنشطة هذا المؤتمر. لقد كان بحق نقلة نوعية وتجربة فريدة ستؤسس لحالة جديدة لمفهوم المؤتمرات والمهرجانات والملتقيات التي تُقام على أرض الوطن, سواء كانت محلية أو دولية. لقد تمدد هذا المؤتمر كثيراً جداً, حيث وصلت أصداؤه كل أرجاء الوطن, من شرقه لغربه ومن جنوبه لشماله. لقد استطاع هذا المؤتمر وبفضل هذه الفكرة العبقرية أن يُوحد النسيج التراثي والعمراني والثقافي المنتشر على امتداد الوطن, فيصبح كما لو كان هذا الوطن, بكل تراثه ومعماره وفنونه ورقصاته وأهازيجه وأزيائه أشبه بقرية تراثية تختزل بحب وألق كل الوطن.
لقد أرسى هذا المؤتمر ثقافة جديدة وفكرا متطورا لمفهوم الالتقاء بالآخر القادم من خارج الأسوار بثقافته وفكره وحضارته وتميزه, لقد لمحت الدهشة والإعجاب والرضا في كل العيون, سواء العسلية أو الزرقاء. جلسات نقاش في الرياض, وحلقات بحث في جدة, ورحلات استكشاف في عسير, وفعاليات في الأحساء. لقد شارك الوطن, كل الوطن بهذه التظاهرة العالمية, ونجح الإنسان على هذه الأرض الطيبة في إيصال هويته التراثية وكنوزه الأثرية وقيمته الحضارية لكل المشككين, سواء من الداخل أو الخارج.
أعود لأكمل قصة الفتاتين الإيطاليتين الرائعتين العازبتين لأنها مثيرة وتستحق الإشادة وتقدم بعض الرسائل والدروس, خاصة لفتياتنا الواعدات. فهما في السنة الأولى للإعداد للدراسات العليا في تخصص الهندسة المعمارية, وتدرسان في جامعة فلورنس الإيطالية. أما سبب مشاركتهما في هذا المؤتمر العالمي فكان بترشيح البروفيسور رفائيل بالوشا أستاذ الدراسات العليا في تخصص الهندسة المعمارية بجامعة فلورنس والذي أشرف على ورقة العمل التي شاركتا بها في حلقات النقاش الخاصة بنماذج من المحافظة على التراث العمراني في جلسات هذا المؤتمر. وقد حظيت ورقتهما العلمية بقبول المحكمين وبإعجاب الحضور, وقد كانت بعنوان "داكار: من التراث العمراني إلى التخطيط الحديث".
بأسلوب أخاذ وحماس كبير عرضت ريتا ولوريدانا تجربتهما المثيرة في رصد وتسجيل التجربة الرائعة التي ساهمت بالانتقال السلس والمدروس للمباني والبيوت التراثية في قرى داكار القديمة من مجرد بقايا مساكن تراثية هجرها أهلها إلى بيوت ومبانٍ حديثة تُحاكي الأمس بكل ألوانه وعبقه وسحره. لقد اختارت ريتا ولوريدانا الذهاب إلى السنغال لخوض تجربة جديدة وثرية بعد مفاضلة طويلة بينها وبين المغرب وكينيا. ذهبتا للدراسة والبحث والاكتشاف والمغامرة إلى هذا البلد الذي يقع في أقصى الغرب الإفريقي. لم تكن ثمة بعثة بانتظارهما, أو تمويل مالي يُساندهما في هذه الرحلة الطويلة والمكلفة والخطرة, خاصة لفتاتين غربيتين, فقط أوثقا شنطة صغيرة على ظهريهما بها بعض الملابس والكتب والخرائط والأوراق والأقلام وكاميرا وقليل من المال, ولكنهما حشرا أيضاً الكثير من الإصرار والتحدي والرغبة القوية في الاكتشاف والتعرف عن قرب على التراث العمراني والحضاري لهذا البلد الإفريقي البعيد. شنطة صغيرة, ولكنها تحمل كل ذلك, بل أكثر من ذلك.
كانت تجربة مميزة جداً لهاتين الفتاتين الرائعتين, لقد صفق لهما كل المشاركين والحاضرين لذلك المؤتمر الدولي, وكم تمنيت ـ وأظن الكثير مثلي كذلك ـ وأنا أشاهد نظرات الإعجاب والدهشة وأسمع عبارات التقدير والإشادة أن أجد مثل هذه الجدية والمثابرة والإصرار على النجاح لدى كل شباب وفتيات هذا الوطن الكبير, هذا الوطن الذي يزخر بالمئات, بل الآلاف من السعوديين والسعوديات الرائعين في كل المجالات.
سلطان بن سلمان, ماجد الشدي, محمد الرشيد, وباقي الأسماء الرائعة من كوادر الهيئة العامة للسياحة والآثار شكراً من الأعماق لأنكم ـ بهذا النجاح الكبير لهذا المؤتمر الدولي ـ وضعتم السعودية على خارطة المؤتمرات العالمية الحقيقية.