رجلٌ ليس فيه إلا الألم. رجلٌ بئرُه مرّةٌ، نضّاحةٌ بالحزن. رجلٌ تهدر في أعماقه أنهارُ الدمِّ والموت والخراب. رجلٌ هصرتْ رمّانةَ قلبه المأساةُ، فتشققتْ وانتثرتْ حبّاتُهُ موشومةً بما لا يُطاق من زلزالٍ أخذَ الابن وطوى الوطن.
رجل الألم هو الشاعر العراقي خزعل الماجدي الذي مرّ بتجربةٍ مريرة في عام 2006 حيث خطف الإرهابيون ابنه "مروان" واختفى مذّاك إلى الأبد، فكتب الأب المكلوم نشيد اللوعة والعذاب والغياب على مدار أيام العام كاملةً، ويتقاطع في هذه الكتابة ما نزل بأرض الرافدين من عنف دموي في دورة عاصفة ضاقت بها المقابر وثلاجات الموتى. يتقصّى خزعل روزنامة العام 2006 يوما تلوَ يوم في "أحزان السنة العراقيّة - دار الغاوون للنشر والتوزيع، بيروت ـ 2011"، ليصنع ملحمةً شعريّة، قوامها يزيد على ثمانمائة صفحة تزبد بالدم وتتفجّر بالألم، تتناول التراجيديا العراقيّة السابحة في نهر الدم الذي لا يجفّ، ولا يُرادُ له الجفاف.
نهرُ الدم ترفده مصبّاتٌ من النظام السابق إلى النظام الحالي؛ من الإرهاب الوافد إلى الإرهاب المقيم؛ من الاحتلال الأمريكي إلى ميليشيا الأحزاب. تكاثرت الأيدي والجهات على العراق الوطن فأحالته إلى خرقة ممزّقة ملطّخة بالدماء وبالرماد "القطعان الضّالة جاءت من الشرق وطعنتْ دجلة/ وجاءت من الغرب وحفرتْ خاصرةَ الفرات/ وجاءتْ من الشمال ونهشتْ الجبال/ وجاءتْ من الجنوب وخرّبت المدن/ بستانك يا عراق تحوّل إلى زريبة/ تلمع فيها عيونُ الذئاب".. "العناكب تسدّ منافذ الطرق/ ووراء شباكها اللامعة/ كانوا يطبخون المكائد/ قبورٌ حجريّة تفور فيها المصائر/ وترسم لكل واحد فينا طريقا أعمى/ جثث الليل صفراء/ وأوراق الزمان ملطّخة بالرماد".
في هذه الملحمة الشعريّة، كان المشهد قياميّا. تنهال فيه النيران وتجلجل أجراس النعي تبكي وطنا ما عاد؛ تعول على جسدٍ يتفكّك بين أيدي اللصوص والقتلة؛ تصرخ وترفع عقيرة الندب على الوجه الحضاري ينحُلُ وينحَلّ في لهب الدناءة والقبح والمؤامرة "من تُرى هيّجَ طبقاتِ الجحيم فيك يا عراق/ فانفجرتْ الحممُ كما لو أن براكين الأرض كلّها فيك".. "الذئاب تغوص في عظامنا/ ورُزَم الجحيم/ تأكلنا في حديد أوراقها".
"أحزان السنة العراقيّة" تجربةٌ في الفقد، لم نقرأ مثلها بهذا المقدار من النفاذ والشعريّة. لم يكن خزعل متفردا في حادثة ابنه المخطوف الغائب، لكنه كان متفرّدا في التعبير عن فجور الألم وتبريحه. خاضَ في أرض التجربة إلى الجذور، واستصفى النّسغ وقطّرَ الرحيق. غاصَ في هاوية العذاب يفتّش في روائح الابن وذكرياته وطيفه الذي لا يفتر يعاوده في الوطن وفي المنفى "هولندا". له يفزّ، ويتخلّع قلبه ويفيض بنشيد الإنشاد "الليلةَ طرقَ البابَ عليّ فقمتُ لأفتحَهُ لكني لم أجد سوى الريح/ الليلةَ طلبَ منّي أن أسقيه ماءً لكني حين ملأتُ الكوبَ لم أجد فمَه/ الليلةَ سمعتُهُ يغنّي وحين تبعتُ صوتَهُ وصلتُ إلى الصحراء".
برصاصٍ في القلب وجمر، كتبَ خزعل أحزانه.. ورغم الرماد الذي انكتَّ على حياته فأحالها إلى جحيم، فقد وجد في الشعرِ الملاذَ والخلاص "كان بمثابة العلاج لي، ومكان البوح وإعلان الأسرار. كان الشعر صديقي الأول. ولا أظن اليوم أن هناك مَن واساني مثله".
* كاتب سعودي