وصلني من منظمة أفاز، وهي منظمة عالمية مستقلة وغير هادفة للربح تهتم بإطلاق الحملات الساعية إلى توصيل صوت وآراء شعوب العالم إلى صانعي القرار ويعمل فيها فريق من النشطاء ينتمون إلى أماكن مختلفة في العالم، رسالة عنوانها "غضب عالمي على إسرائيل" تدعو للتضامن من أجل إجراء تحقيق مستقل حول الهجوم الإسرائيلي على سفينة الحرية ومحاسبة المسؤولين وفرض إنهاء فوري للحصار على غزة، وانتهت الرسالة هكذا: (تظاهر الآلاف من نشطاء السلام في إسرائيل اليوم ضد الغارة والحصار من حيفا إلى تل أبيب والقدس وانضموا بذلك إلى المظاهرات في العالم. وبغض النظر عن أي جانب أشعل الشرارة الأولى - فالجيش الاسرائيلي يزعم أنه لم يبدأ بأعمال العنف - فقد أرسل قادة إسرائيل المروحيات المسلحة والقوات العاصفة للإغارة على قافلة سفن في المياه الدولية والتي تحمل الأدوية والإمدادات إلى قطاع غزة، وقد وقع بعض القتلى. لا يمكن إعادة الحياة إليهم. ولكن ربما، معا، يمكننا أن نجعل من هذه اللحظة المظلمة نقطة تحول)، وهذه النهاية التي تشكك في صدق إسرائيل وحقها المزعوم في الدفاع عن نفسها تجاه نشطاء سلام لم يكونوا يحملون سلاحاً بل معونات إنسانية بما فيها الغذاء والدواء، جعلتني أوقع على الالتماس وأحوّله إلى مجموعة كبيرة من الأصدقاء وهو أضعف الإيمان.
مع هذه الرسالة كان هناك رابط لمقال في صحيفة هآرتس عنوانه "حرب غزة الثانية/ ضياع إسرائيل في البحر" يقول فيه كاتبه: (لم نعد ندافع عن إسرائيل. الآن نحن ندافع عن الحصار. الحصار نفسه أصبح فيتنام لإسرائيل)؛ يطلب الكاتب من شعبه الإسرائيلي أن يتعظ بما حصل للأمريكيين في فيتنام، ولعله يقصد نهاية إسرائيل في فلسطين كما انتهت أمريكا في فيتنام؛ ثم يقتبس تصريحاً لأحد أعضاء حزب الليكود: (أهم شيء الآن هو التعامل مع التقارير الإعلامية السلبية بسرعة، كي يذهبوا بعيداً)، يقصد نشطاء السلام؛ يتابع الكاتب: (إلا أنهم لم يذهبوا بعيداً. إحدى السفن تسمى راشيل كوري، قتلت بينما كانت تحاول وقف جرافة إسرائيلية من هدم بيت في قطاع غزة منذ سبع سنوات. وأصبح منذ ذلك الحين اسمها، وقصتها، صواعق برق تنير طريق المتعاطفين مع فلسطين).
امرأة صنعت الفرق؛ هي ناشطة السلام راشيل كوري ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً والتي وصلتني رسالة عن تضحيتها من أخ مصري فيها كلمات تستحق أن تقرأ، إذ يتساءل عن قوة الدافع وراء ترك هذه الفتاة لموطنها وأهلها والذهاب بعيداً عنهم إلى فلسطين، حيث المكان الأقل أماناً في العالم، لكنها قوة الإرادة في البحث عن الحقيقة، ولقد رأتها راشيل بأم عينيها وأوصلت رسالتها إلى العالم (عندما قدمت روحها هدية لكل من يبحث عن رمز للنضال السلمي ضد دولة الغطرسة والحقد والقتل والهمجية)؛ ويتفق صاحب الرسالة مع الكاتب الإسرائيلي في هآرتس الذي ترجمت- أعلاه - فقرة من مقالته في أن راشيل كانت (جذوة نار أشعلت في القلوب الصدئة نوراً بدّد ظلام حناياها)، ولا يخفى على أحد أن شجاعة راشيل وتضحيتها كانت أولى الصيحات التي أيقظت ضمير العالم.
تستحق بعض النساء العربيات أيضاً أن نقدم لهن التحية، على رأسهن حنين الزعبي عضو الكنسيت الإسرائيلي التي لم تترك منبراً إعلامياً إلا وشاركت فيه لتفضح الهمجية الإسرائيلية التي قامت بالاعتداء على سفينة الحرية، ورأينا على الشاشة كيف هاجمها بعض أعضاء الكنسيت الآخرين وحاولوا إخراجها من القاعة واتهموها بالخيانة، ومع أنها بدت رابطة الجأش في تلك اللحظات العصيبة، ويمكن لأي واحد منا أن يعلم الخطر الذي عرّضت نفسها له مقابل أن تقول الحقيقة؛ ولا تقلّ تلك النسوة اللاتي ركبن السفينة شجاعة عن حنين، لكن لفت نظري حنان إحداهن، على الجنود الإسرائيلين الذين هاجموا السفينة، فقد ذكرت أن بعضهم كانوا فتياناً لم يخطّ الشعر في وجوههم، حتى إنها شعرت بالشفقة عليهم، فالقلب النبيل الذي تحمله هذه السيدة لم يجعلها تخشى على حياتها بل تشعر بالأسى على من جاء ليضع حداً لمهمتها أو لحياتها ربما، لأنه قد يكون ضحية عملية غسيل دماغ، فيا ليت حديث هذه السيدة وصل إلى الأمهات الإسرائيليات ليدركن أن هناك من يستغلّ صغر سنّ أولادهن من أجل أن يعلو صوت التطرف على صوت الحكمة. هذا الحنان هو الذي لفت نظر راشيل كوري، والمقارنة بين الأشياء والأشخاص هي التي تظهر الفروق، ولقد كان الفارق كبيراً بين الصلافة الإسرائيلية والحنان الذي لمسته راشيل فكتبت لوالدتها ما يلي: (لقد سألتِني، يا ماما، عن المقاومة اللاعنيفة. حين فُجِّر ذلك اللغم أمس كسَّر النوافذ كلَّها في منزل العائلة [حيث أقيم]. كانوا آنذاك يقدمون لي الشاي، وكنت ألعب مع الطفلين الصغيرين. أمرُّ الآن بوقت عسير. فأنا أشعر بالألم لأن أناساً يواجهون الموت يعاملونني طوال الوقت بحبٍّ كبير وبعذوبة كبيرة! أعرف أن ذلك كله سيبدو لكم في الولايات المتحدة، مغالاةً شديدة. ولكن، للأمانة، فإن حنان الناس الكبير هنا، مقترنًا بالدليل الساطع على تعرُّض حياتهم للتدمير العَمْد، يجعل الأمر يبدو غير حقيقي في نظري أنا الأخرى. لا أصدق أن شيئاً كهذا يمكن له أن يحدث في العالم من دون أن يستثير احتجاجاً أعظم! ويؤلمني من جديد، كما آلمني في السابق، أن أشهد مدى البشاعة التي يمكن لنا أن نسمح للعالَم بأن يبلغها)؛ هذا جزء من رسالتها لوالدتها كتبته باليد لكن رسالتها للعالم كله كانت مخطوطة بالدم وقد أزهرت بقعة الدماء وجاء موسم الثمر، ونرجو أن يقطف شعب فلسطين الثمار قريباً.