تبدو المنطقة – وفلسطين في بؤرتها – مقبلة على موجة من "التسخين" السياسي وتلاحق الأحداث وتتابع التحركات والدفع بالمواقف إلى "حافة الهاوية".. فهل في هذه التفاعلات ما يشير إلى "خطط خفية" وتفاهمات غير معلنة بين الأطراف المؤثرة بغية "تفكيك" العقد القديمة وإزالة العقبات المتبقية أمام "إنهاء" القضايا المختلف عليها؟ أم أن السياسة الإسرائيلية ،المتجاوزة لكل الأعراف الدولية، تثير بتصرفاتها المتغطرسة، الدول التي لا تقبل المساس بكرامتها أو الانتقاص من مكانتها أو التقليل من تأثيرها أو المساومة على حفظ وصيانة حقوق مواطنيها؟.. هل "الاندفاع" الإسرائيلي لاستغلال "الحالة العربية" سيكون عاملاً يدفع باتجاه تسارع وتنامي "مزاج" مقاومة الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة؟... ليس صعبا على أحد أن يرى عمق "الحيرة" التي تحيط بالموقف العربي أو أن يستبين علامات انسداد "الأفق السياسي" بعد سلسلة من النكبات والعثرات المتولدة عن فشل النظام العربي الرسمي في بلورة رؤية استراتيجية فاعلة في "استثمار" أرصدة المصالح الكبرى التي يملكها وتوظيفها في إيجاد "توازن" في علاقات الدول الكبرى مع أطراف النزاع.. فقد استطاعت إسرائيل أن تبقي علاقتها الاستراتيجية في مقدمة أولويات الدول الكبرى التي لم تشعر يوماً أن مصالحها مع المجموعة العربية مهددة أو يمكن استخدامها بصورة فاعلة. ولو شعرت تلك الدول الكبرى أن "رصيد المصالح" الذي يملكه العرب يمكن أن يفعل لكانت المواقف تبدلت، فالعلاقة مع إسرائيل – رغم أهميتها وتشابكها مع المصالح الغربية اقتصادياً وثقافياً وإعلامياً – هي في النهاية علاقة دول تقوم في الأساس على "المصالح".. .. وهذه الحال – تعثر النظام العربي الرسمي – هي مصدر تناقص الوزن العربي وضعف تأثيره في التجاذب السياسي بين دول المنطقة. ومن أواخر "ثمار" هذا التعثر الواقع الفلسطيني الذي انقسم إلى فريقين: فريق فقد كل "أسلحته" ولم يبق في يده غير التعلق بالأمل بأن ترغم الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل على إعطائه "شيئاً" يحفظ ماء الوجه.. وهذا الفريق يلقى دعم عرب مشفقين على الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت ظلال السلاح مع الجوع والقتل والدمار والقهر. ويرون أن هذا الدعم هو "أضعف الإيمان". وفريق ثان تبتعد مواقفه عن التأثير العربي بعد شعوره بتخلي من كان يظن أنه المساند الرئيس. وزاد من تباعده "حضور" دول في المنطقة تبحث عن دور رئيس في أمن المنطقة وسياساتها الاستراتيجية.. وهذا الفريق يرفع لافتة "المقاومة" وهي لافتة مغرية لها شعبية طاغية في الشارع العربي الذي يبحث عمن يحيي فيه الآمال..
أمام هذه "الحال" التي لم تستطع فيها المصالح العربية أن تدفع الدول الكبرى إلى بناء علاقات "متوازنة" مع إسرائيل، هل يكون "أسطول الحرية" حصان طروادة الذي يخلخل جبهة التحالف الغربي الإسرائيلي، ويوقف الصلف الصهيوني وإعادة الحسابات واعتماد "الشرعية" الدولية وإعطاء الفلسطينيين ما وافقوا عليه – مع شعورهم بالغبن؟ - .. هل يكون "الدم" التركي الوقود الذي يحرك قافلة المنطقة للعودة إلى الذات وإدراك ما لديها من قوة ووزن على طريق "الشتات" العربي؟
علينا أن ندرك أن السياسة التركية الجديدة لا تقوم على العواطف – كما قد يتوهم البعض – بل تستند على المصالح حتى وإن غلفها خطاب أخلاقي يدعو إلى إنصاف المظلوم وتحقيق العدل، فليس عيباً أن يدير الناس مصالحهم ويحققوا أهدافهم دون التخلي عن قيمهم ومبادئهم.. والراصد للتحرك التركي لا تخطي عينه رفضه للسياسة القديمة التي جعلت تركيا "كتلة" بشرية وموقعاً جغرافياً مهما ورصيداً تاريخياً عريقا غير مفعل، وركونها إلى سياسة "ردود" الأفعال وبناء تحالفات وصداقات لا تكون فيها قائداً بل تكتفي دائماً بدور "الرجل الثاني".. هذه الاستراتيجية "الساكنة" تخلت عنها تركيا حين جاء إلى السلطة حزب العدالة والتنمية بتفويض شعبي يعبر عن رغبة أكيدة في استعادة تركيا لدورها المحوري في المنطقة وخروجها من موقع الشاهد المتفرج على الأحداث، إلى دور المشارك الفاعل.. وفي سبيل تحقيق هذا التوجه تحركت الدبلوماسية التركية في اتجاه "حلحلة" "العقد القديمة" وفتح "ملفات" كانت في منطقة النسيان أو التجاهل أو العناد.. ومن أمثلة تلك العقد والملفات قضية العلاقة مع أرمينيا "العقدة التاريخية" فقد فتحت الدبلوماسية التركية الجديدة هذا الملف بشجاعة وجرأة وقبلت الاحتكام إلى "لجنة تاريخية" تدرس الوقائع وتراجع الوثائق وتستفتي القانون الدولي، كما بادرت بالتعامل مع الملف الكردي بروح "الاستيعاب" وقبول الثقافة الكردية ضمن المكون التركي. وكان من ملابسات هذا الملف معالجة العلاقة السورية التركية التي ارتبطت تاريخياً بموقف الأكراد الأتراك من أنقرة بدون حساسيات الماضي القديم وحمولاته. وعلى الجهة العربية كانت تركيا حاضرة فاعلة فلم تغب عن الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006، ولم تصمت عن جريمة تدمير غزة على رؤوس أهلها وبادرت إلى مد جسور المصالح وتبادل المنافع مع دول الخليج. ولم تقف تحركاتها على حواف حدودها الجغرافية إذ مدت حبال مصالحها إلى أمريكا اللاتينية، (يوم هاجمت إسرائيل "أسطول الحرية" كان طيب إردوغان في البرازيل). هذه الحيوية، بتحركاتها وفاعليتها وحضورها المؤثر، يفسرها البعض على أنها رد عملي على الممانعة الأوروبية في انضمامها إلى عضويتها الكاملة.. فكأن تركيا تقول للممانعين الأوروبيين: إذا أوصدتم باب "البيت الأوروبي" الذي نسعى للمشاركة في إعماره فأمامنا "بيت الشرق" الذي بناه الأجداد وعمروه مئات السنين ففيه الخيرات والمنافع الاقتصادية وفيه "رائحة" الآباء ومورثاتهم ومخزون الذاكرة. إذا كنا أبدينا رغبتنا وحرصنا على الدخول في البيت الأوروبي، وما زلنا نؤكد هذه الرغبة، فإننا لسنا في "العراء" فلدينا "عمقنا الاستراتيجي" حيث تختلط المشاعر والذكريات والتاريخ والمصالح والمنافع...
أعلم أن السياسة بلا مشاعر وأعتقد أن السياسي المطبوع "منافق" بالفطرة، توجهه مصالحه وتدفعه منافعه لكن قد تلتقي المنفعة بـ"العودة إلى الذات" وحينها تكتسب السياسة حرارة العاطفة وتعقلن المنافع اندفاع المشاعر. فهل نحن في لحظة "اقتران" المصالح بالمشاعر في التوجه التركي؟ وهل تخطو تركيا خطوة جريئة فتعلن مسؤولياتها عن إعادة الحقوق وتحرير "بيت المقدس" من سياسة التهويد؟.. هل "المزاج العربي" قابل أو مساعد على هذه الخطوة؟ وهل الحسابات التركية التكتيكية والاستراتيجية تدفع بهذا الاتجاه في هذه الوقت؟ أم أن حسابات الوقت الراهن لا تدعو إلى هكذا خطوة ولكن قد تمهد لها بتحركات أكثر قرباً من القضية، تتجاوز مسألة فك الحصار عن غزة إلى دعم التيار الفلسطيني الذي يرى "عبثية" المفاوضات مع إسرائيل؟ الأحلام والأماني قد تجر الكثيرين إلى "ساحة هذا الحلم" لكن النظرة الموضوعية، وطبيعة العلاقات الدولية، وحساب المكاسب والخسائر لا تؤيد المضي في توقع هذا "الحلم" .. فتركيا دولة لا تستطيع أن تتجاهل القوى الدولية، ولا أحد يطالبها بأن تقفز على الشرعية الدولية. لكن الذي جرى ويجري يؤكد أن السياسة التركية خطت في اتجاه القضية الفلسطينية خطوات غير قابلة للتراجع ولها ما بعدها..