أسئلة حائرة تدور في عقول كثيرين عن الأسباب والدوافع الحقيقية التي حدت بالولايات المتحدة إلى احتلال العراق واجتياح أراضيه لـ9 سنوات متواصلة، إضافة إلى السيطرة غير المباشرة عليه خلال فترة الحصار التي سبقت الاجتياح المباشر.
ومع أن الغزو العراقي لأرض الكويت في جنح الليل، ونهب ثرواتها، والاعتداء على مواطنيها الآمنين، وتهديد الدول الخليجية الأخرى عبر التلويح بغزوها مثَّل سقطة كبيرة، وخطأ لا يغتفر للنظام العراقي الذي تحجَّج بأنه سيق سوقاً للتدخل في الكويت، وأن السفيرة الأميركية السابقة في بغداد أبريل غلاسبي أكدت للرئيس السابق صدام حسين أن بلادها ستغض الطرف عنه إذا أقدم على اجتياح الكويت. إلا أن تلك تبقى ذريعة واهية وعذراً أقبح من الذنب الكبير، فمنذ متى كان سكوت طرف دولي يعطي دولة الحق في احتلال أراض ليست تابعة لها؟ وهل يستطيع اللص أن يحصل على ما ليس له بسبب سكوت الشهود؟ ومنذ متى كان التاريخ ينصف المغفلين والسذّج؟
بعد تحرير الكويت اجتهد المفسرون لمعرفة الأسباب الحقيقية للغزو. وبعد تهاوي حجة تخليص المنطقة من أسلحة الدمار الشامل الموجودة في العراق التي مثَّلت أولى الذرائع لاحتلال بلاد الرافدين، واعتراف الأجهزة الاستخبارية للدول العظمى تحت ضغوط الرأي العام الغربي بعدم العثور على تلك الأسلحة عقب سنوات الاجتياح الأولى، مما أثار التساؤلات من جديد.
حجة واهية
وبعض الخبراء يشير إلى حضور العامل الاقتصادي بقوة والرغبة الغربية في السيطرة على منابع البترول العراقي، إلا أن هذه الفرضية تبدو مستبعدة لأسباب كثيرة، أو على الأقل لا يمكن أن تكون هي السبب الوحيد للغزو، لأنه كان بإمكان الغرب أن يفعل ذلك دون الحاجة إلى تدخل عسكري. كما أن التكلفة الباهظة التي دفعتها هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والعدد الكبير من القتلى وسط جنودها، والخسائر العسكرية الأخرى، واهتزاز صورتها السياسية ربما تكون أعلى من قيمة النفط العراقي بأكمله.
تفسير مقبول
يذهب آخرون إلى تفسير يبدو منطقياً وأقرب إلى الصواب، وهو الخوف الغربي من تنامي الثروة العلمية وازدياد عدد العلماء العراقيين وبروزهم في العديد من المجالات، لاسيما النووية والعلوم المرتبطة بها من فيزياء وكيمياء، وهو ما أدى إلى لفت انتباه الإدارة الأميركية والغرب على وجه العموم إلى البرنامج النووي العراقي والقائمين عليه. ولأن العراق يمتلك مخزوناً نفطياً هائلاً وثروة بشرية لا يستهان بها، فقد مثَّل ذلك مصدر قلق لإسرائيل يهدد بفقدانها التفوق العلمي على دول المنطقة. إذ أن المال والعلم هما الشرطان الرئيسيان لتحقيق أي نهضة علمية.
وإذا كانت الولايات المتحدة لم تفق بعد من مفاجأة البرنامج النووي الباكستاني الذي أذهل الدول الغربية بأكملها عند الإعلان عنه، ومثَّل بالنسبة لها صدمة كبيرة لأنها تنظر له على أنه قوة ردع إسلامية غير مرغوب فيها، فإنها لم تكن على استعداد لتحمُّل صدمة أخرى. لذلك عملت على استباق الأحداث والقضاء على كل أمل بانضمام دولة عربية وإسلامية أخرى للنادي النووي.
تجارب سابقة
ومما يعزز هذا الرأي أن الولايات المتحدة الأميركية عُرفت بتخوفها من عقول أعدائها ومنافسيها أكثر من أسلحتهم وقوتهم، وعودة سريعة لملفات التاريخ تؤكد ذلك عندما أقدمت عقب الحرب العالمية الثانية على تجريد ألمانيا المنهزمة من علمائها وخبرائها العسكريين، فأخذتهم قسراً وأعادت توطينهم في أراضيها.
وهناك دليل آخر يؤكد الاهتمام الأميركي المتعاظم بالثروة العلمية للعراق وهو ما قاله رئيس فريق التفتيش الذي أرسلته الأمم المتحدة للوقوف على حقيقة الأسلحة العراقية هانز بلكس "حتى إذا دمَّرنا كل شيء فنحن أمام جيش كبير من العلماء والمهندسين والخبراء في المجال النووي والبيولوجي والهندسة الكيميائية والفيزياء، وهؤلاء هم الخطر الحقيقي على السلام". لذلك أصرت الإدارة الأميركية على الاتصال بالعلماء العراقيين وتشدَّدت عند إصدار قرار مجلس الأمن رقم 1441 على تضمينه بنداً بضرورة استجواب العلماء، وأرفقت بصيغة القرار كشفاً بأسماء 350 منهم. وتحضر في هذا المجال مقولة رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير الشهيرة أن العراق "قد تجاوز كل الخطوط الحمراء بالنسبة لعدد العلماء".
شهادات
وفي ذات الإطار يوضح تقرير صادر عن مركز الخليج للدراسات الإستراتيجية بتاريخ 28/4/2004 أنه وإن كان النفط أحد الأهداف الرئيسية للحرب, فإن استهداف العلماء العراقيين كان عاملاً أكثر أهمية، وهو ما عبَّر عنه الجنرال فينسنت بروكس من مقر القيادة المركزية الأميركية في قطر قبل الغزو بشهرين عندما تحدث عن أهمية العلماء العراقيين بالنسبة لبلاده، حيث قال "هؤلاء العلماء مركز خطورة على المصالح الأميركية في المنطقة ولا بد من تحجيم دورهم ومعرفة ما انتهوا إليه من إنجازات علمية".
هكذا سيطر الخوف على إسرائيل التي تتباهى بتفوقها العلمي على العرب وضخامة ترسانة أسلحتها، لذلك رافقت قوات التحالف التي اجتاحت بغداد في التاسع من أبريل عام 2003 أعداد ضخمة من عملاء الموساد تحت مسميات عديدة ووراء لافتات مختلفة للتجسس على البرنامج النووي وملاحقة العلماء العراقيين وإغرائهم بالانتقال للعمل في معاملها ومختبراتها، مرة باستخدام المال ومرة بتوفر الإمكانات المتقدمة التي تتيح لهم تحقيق طموحهم العلمي، أو تصفيتهم في حالة الرفض.
عمل منهجي
وتشير مصادر أمنية عراقية إلى أن فرق الموساد المكلَّفة بتصفية العلماء كانت تسمى "سرية مقتل" وتضم 2400 فرد اتخذوا من "نادي الفارس" بمنطقة العامرية القريبة من مطار بغداد الدولي مقراً لهم. كما استقطبوا 200 فرد من قوات البشمركة لتنفيذ أجندتهم بعد تلقيهم تدريبات في موقع عسكري بمدينة نتانيا الإسرائيلية على أعمال الخطف وزرع العبوات الناسفة.
وبمجرد سقوط بغداد في التاسع من أبريل 2003 وضعت تل أبيب يدها على جميع ممتلكات جهاز المخابرات العراقي واستحوذت على ملفات ووثائق الصناعة العسكرية، كما سيطرت على منطقة (التويثة) التي تضم مفاعل تموز النووي، وقامت بتفكيك أغلب الشركات التابعة لهيئة التصنيع العسكري مثل "ابن سينا" الواقعة في الشمال الشرقي من بغداد و'المثنى" و "الرشيد" و "7 نيسان" و "اليرموك" و "القعقاع" ومنشأة "حطين" جنوب غرب بغداد، وكذلك كل الشركات العاملة في صناعة الأحماض الكيميائية، وفككت معداتها بشكل مبرمج ومعد ضمن برامج غاية في الدقة. وهو ما أكده المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الدكتور محمد البرادعي، الذي أشار إلى سرقة المعدات النووية والصناعية العراقية ونقلها إلى المفاعلات الإسرائيلية.
استغاثة
بمجرد أن استقر الأمر للقوات الغازية، بدأت إسرائيل حربها على الفور ونشط أفرادها وعملاؤها في تصفية العلماء العراقيين وهو ما دفع بعدد منهم لإرسال نداء استغاثة عبر الإنترنت بتاريخ 11/4/ 2003، أي بعد سقوط بغداد بيومين, حمل عنوان" علماء الأمة المهدَّدة" طالبوا فيه كل الجهات العربية المعنية للعمل على إنقاذهم من عمليات المداهمة والتحقيق والاعتقال التي تنفذها ضدهم قوات الاحتلال التي دمرت مراكز الأبحاث وصادرت كل الأوراق والوثائق المتصلة بالمشاريع العلمية العراقية.
ويؤكد الدكتور إسماعيل الجليلي في دراسة عرضها في المؤتمر الدولي الذي عقد في العاصمة الإسبانية مدريد عام 2006 وناقش مصير العلماء العراقيين أن العصابات والمليشيات التي قامت بذلك العمل هي قوى خارجية تريد إفراغ العراق من عقول أبنائه, وكانت المحصلة لكل ذلك هي مقتل ما يقارب 500 عالم ومفكر عراقي.
وأن مؤشرات عمليات الاغتيال لا تدل على أنها ذات اتجاه طائفي أو ديني. وأن أكبر ملامحها هو أن العرب يشكلون الأغلبية المطلقة للضحايا. ويرى الجليلي أن الهدف الرئيسي من ذلك هو إيقاف التقدم العلمي الذي يشهده العراق، وترويع الهيئة التدريسية بما يؤدي إلى تعثر العملية التربوية وهجرة العقول إلى الخارج. ويشير إلى أن عمليات الاغتيال والخطف تطال المتميزين من ذوي الاختصاصات المختلفة في أغلب الجامعات، مما يؤدي إلى اضطراب الأجواء الجامعية وازدياد الصراعات الشخصية والطائفية. ويقول "ما جرى في العراق خلال سنوات الاحتلال الأميركي هو جزء من خطة لتدمير العراق وعرقلة تطوره وعملية تصفية منهجية لإمكاناته لإنهاء دوره كقوة إستراتيجية في المنطقة. وكما هو ظاهر من خلال الإحصائيات فإن هذه العملية كانت بعض بنود "الفوضى الخلاَّقة" التي اتّبعها الاحتلال منذ الغزو لتطويع العراقيين وإخضاعهم. وليس عبثاً أن تستهدف المجزرة الجامعات التي تُعتبر مراكز النشاط العلمي والحراك الثقافي والسياسي.
معلومات ضئيلة
ورداً على سؤال من "الوطن" عن مصير العلماء المفقودين، قال القيادي في جبهة الحوار الوطني ووزير التربية الحالي محمد تميم إنهم توصلوا إلى معلومات مؤكدة تفيد بأن أكثر من 200 من أبرز العلماء والأكاديميين العراقيين كانوا قيد الاعتقال بموجب ما عرف بـ "الأدلة السرية" في سجن داخل قاعدة عسكرية أميركية في منطقة التاجي شمالي العاصمة بغداد، وقال "لقد خضع هؤلاء لاستجواب فرق التفتيش التي كانت تبحث عن أسلحة الدمار الشامل، وهم من الأكاديميين والعلماء والمتخصصين الذين استعان النظام السابق بخبراتهم العلمية، وبعضهم ذهب إلى نيويورك بغرض الاستجواب"، مشيراً إلى أن الإدارة الأميركية تتعامل بضبابية في هذا الملف وتتعمد تجاهل الحديث عن كثير من تفاصيله وليست لديها الرغبة في كشفها وإظهارها. واتهم تميم واشنطن بالعمل على تهجير العلماء العراقيين وتوطينهم في الدول الغربية، مستدلاً بما حدث للفريق عامر السعدي المستشار العلمي للرئيس السابق صدام حسين الذي قام بتسليم نفسه للقوات الأميركية التي سهَّلت مهمة سفره إلى ألمانيا واستقراره بها لأن زوجته تحمل الجنسية الألمانية. وكذلك المنسق العراقي مع فرق التفتيش الدولية اللواء حسام محمد أمين الذي كان يتولى منصباً رفيعاً في وزارة التصنيع العسكري، والذي سلَّم هو الآخر نفسه للقوات الأميركية، ولم يعرف مصيره بعد ذلك إن كان ضمن المعتقلين أو الذين سافروا إلى الخارج.
مناشدة
بدوره طالب الأكاديمي عامر القيسي عبر "الوطن" الجهات الرسمية في بلاده بالضغط على الولايات المتحدة لمعرفة مصير العلماء المفقودين، وقال "هؤلاء ثروة وطنية لا يجوز التفريط فيها، وللأسف لا تملك وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أي معلومات عن مصيرهم، لأن المئات منهم فقدوا في ظروف غامضة، كما غادر بعضهم البلاد نتيجة اضطراب الأوضاع الأمنية. لذلك نناشد الحكومة عبر كل قنواتها ووزاراتها ومسؤوليها أن تبادر لاستفسار الولايات المتحدة لمعرفة مصير علمائنا الذين أنفقت الدولة عشرات المليارات من الدولارات لتأهيلهم".
استقصاء
وكانت هيئة علماء المسلمين السنة بالعراق قد حذرت من عمليات الاختطاف التي يتعرض لها ذوو الكفاءات العلمية في العراق، وذكرت أن العديد منهم تعرضوا لضغوط من أجل إجبارهم على النزوح إلى خارج العراق حيث يتعرض العديد منهم إلى الاختطاف والتعذيب على أيدي جهات لم تحددها، وقال المسؤول عن الإعلام بالهيئة الدكتور مثنى الضاري "وردتنا شكاوى من كثير من العلماء والأطباء تفيد بتعرضهم وزملاء لهم إلى حالات اختطاف منظمة ومرتبة تمارس فيها أنواع من التعذيب، ويجبر كثير منهم على الخروج من البلد من خلال إيهامهم بأنه ستعاد الكرة لهم حتى بعد إطلاق سراحهم، وقد وصلتنا معلومات مؤكدة تفيد أن الدكتور نزار العبيدي، وهو من علماء العراق المشهورين في مجال الذرة قد توفي أثناء عملية اختطافه بسبب التعذيب. وأضاف "هذه الظاهرة تحتاج إلى دراسة واستقصاء؛ لأنها ليست عملاً عبثياً، إنما هي من تخطيط جهات أجنبية، وأصابع الاتهام تتجه نحو الموساد الإسرائيلي، لأنه سبق أن مارس نفس السياسة على العديد من علماء وأساتذة الجامعات العراقية أثناء زيارتهم للخارج، كما أن الأدلة تشير إلى تنفيذهم الكثير من الأعمال الإجرامية عندما كانوا ينتشرون في جميع أنحاء العراق ولاسيما في بغداد والمنطقة الشمالية.
وناشد الضاري الحكومة العراقية بتوفير الحماية الكافية لضمان حياة المتبقين من العلماء وعدم تركهم عرضة للاغتيال أو الاختطاف أو الهجرة؛ لأن فى ذلك خسارة للعراق لا يمكن تعويضها. إضافة إلى السعي الجاد لمعرفة مصير المفقودين واسترداد من لا زال منهم على قيد الحياة.