من الوهم والعبث أن ننظر لدولة الكيان الصهيوني، على أنها دولة علمانية تحكم بدستور مدني وتديرها مؤسسات ديموقراطية، حيث هذا ما يبدو كظاهر دولة الكيان الصهيوني؛ أما حقيقتها فهي دولة دينية تحكمها وتديرها مفاهيم ومبادئ غابرة مجترة من أساطير وخرافات دينية يهودية بالية وقديمة، أي ظاهرياً تبدو كدولة حديثة ذات طابع مدني تديرها مؤسسات ديموقراطية؛ ولكنها في حقيقة أمرها دولة دينية أصولية عنصرية متزمتة.
وتكمن الخطورة هنا، في معاملة مثل هذه الدولة الأصولية العنصرية المتزمتة التي تتحرك خارج إطار الحاضر ومعطياته، دولياً على أنها تمثل روح العصر ومعطياته، لا بل والمدافعة عنها، في منطقتنا العربية والإسلامية.
إن ماكينة الكذب والتزييف الإعلامية والدعائية الصهيونية، التي لم يشهد تاريخ الإعلام والعلاقات العامة مثيلا لها؛ هي المسؤولة بدرجة كبيرة عن قلب حقيقة واقعها وما تمثله، من النقيض للنقيض، والتأكيد عليه، ولكن الإنسان بطبيعته الخـيرة والذكية، قد يستغفل مرة ومرتين وثلاث؛ ولكن لا يمكن أن يستغفل إلى مـا لا نهاية، فطبيعة الأصـوليات تحمل بـذور فنائها داخلها، مهما حاولت إطالة وجـودها، بالكـذب والحيل والتزييف والتباكي، وبذلت الثروات الطـائلة والتقنيات العالية والجهود المضنية والدعايات المكثفة والمتواصلة لتزييف طبيعتها وتسويقها كعكس حقيقتها، فطبيعة العصر، ترفض وتلفظ عاجلاً أم آجلاً، ما لا ينتمي له، ولا لمعطياته، كطبيعة الجسـد الـذي يرفض ويلفظ أي جزء غريب عنه.
وهذه حتمية تاريخية كما هي حتمية بيولوجية، ولكن العمى الأصولي، يزين لنفسه ما قبحه التاريخ وسنن الله في خلقه وأيامه، وخير مثال على ذلك هو طبيعة العنصرية التي تبنتها دولة جنوب إفريقيا العنصرية السابقة وطبيعة دولة الكيان الصهيوني العنصرية الحالية. فكلا الكيانين العنصريين، تكاتفا مع بعض، وساندا بعضهما، بالدعاية والتسليح وتبادل التقنية ، وتعاضدا معاً في المحافل الدولية منذ نشأتهما، حتى تخلت دولة كيان العزل العنصري في جنوب إفريقيا عن عنصريتها، ونأت بنفسها عن الارتباط بالكيان العنصري الصهيوني. والسبب في ذلك هو أن عنصرية دولة جنوب إفريقيا السابقة، هي عنصرية مصطنعة، أوجدتها لأجل مصالح البيض الذين استعمروا البلد وسيطروا على ثرواته وسلطاته. ولم تكن عنصريتهم نتاج جذور أصولية دينية أو ثقافية غابرة، ولذلك عندما أحس ساسة دولة جنوب إفريقيا العنصرية، بأن سياستهم العنصرية، مرفوضة، ليس فقط من قبل مواطنيهم وجيرانهم الأفارقة، وإنما حتى من قبل مواطنيهم من البلدان الأوروبية التي قدموا منها وينتسبون تاريخياً وثقافياً لها، تخلوا عنها بدون تردد، خاصة عندما شعروا بأن العالم الذي يمثل العصر، أخذ يلفظهم ويرفضهم معنوياً، وهو المؤشر الجاد على رفضهم ولفظهم مادياً، ورميهم في زبالة التاريخ، والذي تنتمي له سياستهم العنصرية المؤذية وغير المقبولة للعصر ومعطياته، المتمثلة في مواثيقه ومعاهداته الدولية. وعليه فقد أخذت تتضح لديهم حقيقة الأشياء كما هي لا كما تمليها عليهم عنصريتهم المتزمتة؛ ولذلك فهموها واستوعبوها، كما هي، وتفاعلوا معها كما تمليها عليهم الحقائق الخارجة عن ذواتهم، لا ما تزيفها وتمليها عليهم أوهام خارجة من ذواتهم لا يراها أو يعترف بها سواهم.
أما الكيان الصهيوني العنصري الغاصب، فمن الصعب عليه إدراك ما أدركته واستوعبته قرينته السابقة دولة جنوب إفريقيا العنصرية؛ وذلك كون عنصريته ناجمة عن أصولية متزمتة وثقافة غابرة، لا تمت لقوانين العصر الإنسانية بصلة؛ بل تقف ضدها وتسخر منها، ولذلك فعندما بدأت تتضح حقيقة الكيان الصهيوني العنصري شيئاً فشيئاً وأخذت تتحدى كل قيم العصر ومنجـزاته الإنسانية، أخذ العالم يقف منها موقفا عدائيا، واضحا أو مستترا.
ولكن في ظل الانفتاح الإعلامي الهائل، من نقل مباشر وتغطية مكثفة لكل حدث غريب أو جديد يقع في العالم على شاشات مختلف قنوات العالم الفضائية والتي تتسابق على نقل الأخبار أولا بأول، وانتشار التعامل المباشر والمتفاعل مع الشبكة العنكبوتية، تعرت أفعال وقبائح الكيان العنصري الصهيوني، وأخذت تنقل وتبث للعالم مباشرة أولا بأول. ولم يكن هذا كافياً لإدانة الكيان الصهيوني، لو لم يكن هنالك أيضاً معطى عصري قيمي إنساني فرض نفسه على الإنسانية جمعاء، وأصبح التهاون باختراقه يهدد كل إنسان أو تجمع بشري يؤمن به وينعم بفضل تطبيقاته عليه من حفظ لوجوده وصيانة لكرامته وآدميته.
كما أن المعطيات العصرية التقنية والقيمية التي ينعم بها إنسان العصر، لم تكن لتؤدي إلى ما أدت إليه من فضح وتعرية لبشاعة أفعال الأصولية العنصرية الصهيونية والغطرسة الإسرائيلية لولا تواجد معطى عصري ثالث يكملهما ويفعلهما من أجل صالح قيم العصر وكرامة إنسانه، وهي جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، حيث الحكومات، حتى الممثلة منها لمعطيات وقيم العصر، تدار بواسطة ساسة، تحكمهم خيارات وضغوط، قد لا يستطيعون تجاهلها أو التخلص منها ببساطة، أما جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، التي فعلاً تمثل قيم العصر الإنسانية وتدافع عنها، فهي تدار بواسطة مثقفين وناشطين حقوقيين وحتى طلبة وأناس عاديين. وهذه الفئة من الناس، عكس السياسيين، لا توجد أو تمارس أي ضغوط عليهم سوى ضغوط تحدي اختراق قيم العصر التي تمثلها جمعياتهم ومؤسساتهم الأهلية، الحامية والمدافعة عنها.
أي إن الساسة تحكمهم ضرورات أما المثقفون والناشطون الحقوقيون فتحكمهم خيارات، ولذلك فأمل البشرية جمعاء في حفظ حقوقها وصيانة كرامتها، يكمن في ظل تواجد جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني. ويبدو هذا تناقضاً بين الحكومات العصرية وجمعيات المجتمع المدني لديها؛ ولكنها في الحقيقة مكملة لا مناقضة لها، بل هي تعفيها من أن تصادم ما تؤمن به وتعلنه دساتيرها من قيم إنسانية عصرية، من أول مهماتها، كحكومات الحفاظ عليها والدفاع عنها. وهذا بالتحديد ما حصل في حادثة مجزرة أسطول الحرية، التي اقترفتها بكل عنف وصلف ماكينة الجزر الصهيوني في المياه الدولية في البحر المتوسط، إذا تخلصت الحكومات العصرية من الضغوط والضرورات المفروضة عليها من قبل، لتتخذ إجراءات رادعة ضد حكومة الكيان العنصري الصهيوني، لم تكن لتجرؤ على اتخاذها، لكونها تدافع عن مواطنيها وتحمي ما يمثلونه من قيم، لا ترضى بأن تتهم أو يتهموا بالإرهاب والتعدي على أحد منهم.
ولقد صدم الكيان الصهيوني، صدمة قاسية أفقدته توازنه، لم يتلق مثلها منذ تكوينه، حيث وجد أن أخبار المجزرة التي ارتكبها وصلت للعالم أجمع بسرعة ارتداد طرف نبيهم سليمان. وأخذت معظم مواقع جمعيات المجتمع المدني في العالم أجمع في الشبكة العنكبوتية تشرح وتستنكر وتشجب جرائم الكيان الصهيوني وتعدها اعتداء على البشرية كلها واستهانة بها؛ قبل أن تصل تبريراته وفبركته وكذبه، الذي وصل لدرجة السخرية من ذكاء البشر وإهانة عقولهم.
والنتيجة التي قام بها عدد بسيط من ممثلي جمعيات المجتمع المدني، سوف تكون فتح حدود غزة على مصراعيها، لتصل المسـاعدات العالمية الطبية والغذائية والإنسانية لأكثر من مليوني إنسان محـاصر ومجوع في غزة الصامدة. وهذا ما عجزت عنه الحكومـات العربية والغربية، ممثلة بالجامعة العربية والأمم المتحدة. فهل نفسـح المجـال لجمعيات المجتمع المدني العربية، لتؤدي دورها وتتعلم من مثيلاتها الغربيات، ليعم السـلام كل أهـل فلسطين في القدس والأراضي المحتلة كلها؟