في فترة الثمانينيات وإلى نهايات التسعينيات الميلادية كان الخطاب الديني في السعودية يتعاطى مع الإعلام بنوع من الريبة فلا هو يدينه الإدانة الواضحة ولا هو يقبل أن يخرج أحد رموزه الفكرية من خلال الشاشة الفضية. كانت تلك الفترة تقتصر على الإعلام الرسمي. كانت الصورة الفوتوغرافية أيضا محل تداول وإشكال فكري يدور بين أوساط الشباب المتدين. الشيخ الطنطاوي هو الأبرز في تلك الفترة وعرفه الكثير من الناس في برنامجه الشهير بعد الإفطار. وفي الوقت الذي يحظى برنامجه بمتابعة غالبية المجتمع السعودي إلا أن ذلك لم يشفع له عند البعض من ذلك الخطاب بأن يصبح الشيخ الطنطاوى ممثلا لطريقة محددة داخل التيار الصحوي. قوبل الشيخ الطنطاوى بنوع من الجفاء من داخل الصف الإسلاموي في تلك الفترة حتى كان يطلق عليه الشيخ الأديب كمحاولة لتحجيم الدور الذي كان يقوم به. لم يكن الشيخ الطنطاوى يتحفظ مطلقاً على الظهورالإعلامي، بل ويكاد يدلي ببعض آرائه المخالفة عن السائد من خلال برنامجه الذي يقدمه على بساطة ما كان يطرح. كانت له طريقته المميزة في تحبيب الجمهور للبرامج الدينية، ولم يكن يتعامل مع الكاميرا بنوع من الهيبة والإعداد الجيد بقدر ما كان يسترسل في الحديث ويدخل من موضوع إلى موضوع آخر حتى إنه في آخر حياته كان ينسى الموضوع الأساسي الذي يتحدث فيه. ومع ذلك بقي في ذاكرة أجيال عديدة وبقي صوته في حين غاب صوت مناوئيه.
الشيخ عبدالعزيز المسند كان هو أيضا ممن استطاعوا دخول الإعلام الرسمي مبكراً ولم يكن له هو الآخر تحفظ على الظهور كما كان حال الخطاب الديني حتى لدى بعض أعضاء هيئة كبار العلماء، بل إن بعضهم مازلنا لانستطيع معرفة أشكالهم للموقف الرافض من الصورة. كان الراديو هو الوسيلة الأقوى في تفعيل الجماهيرية الإعلامية من خلال برنامج (نور على الدرب) والذي كان يجيب عن أسئلة الناس الشيخ ابن باز. كان الشيخ المسند أحد أهم الوجوه الإسلامية والدينية التي قدمت الوجه المتسامح في الخطاب الديني المحلي، بل إنه لقب شعبيا بـ(شيخ الحريم) لما اشتهر عنه خلال برنامجه الشهير (منكم وإليكم) في وقوفه إلى صف المرأة في أسئلتها حول العلاقة الزوجية والرسائل التي تجيء إلى برنامجه، ولأن غالبية متابعيه كن النساء. الشيخ المسند لم يكن هو الآخر من رموز الصحوة التي كان الشباب المتدين يعطي لها أهمية كبرى، ولم يكن ذا اعتبارية خاصة لدى هؤلاء الشباب كما لدى غيرهم.
الشيخ صالح محمد اللحيدان كان هو الوحيد صاحب الشخصية الاعتبارية التي تعاملت مع الإعلام رغم عدم جماهيريته العريضة شعبياً بالمقارنة لسابقيه: (الطنطاوي والمسند) في حين فضل الآخرون الابتعاد كلية عن الظهور من خلف الشاشة. الكاسيت كان هو الوسيلة الأبرز لرموز الصحوة ومشايخها، وتتسع جماهيرية الكاسيت سنة بعد سنة مع بعض الذين كانوا يحاضرون في القضايا الحياتية وأكثر جرأة في النقد والكشف عن بعض الأسرار التي كنا نظن أنها من القضايا التي يصعب على أمثالنا معرفتها في العلاقات الدولية وغيرها.
التعامل مع الإعلام لم يكن محبباً من قبل المشايخ ولذلك فإن الظهور الإعلامي كان محدوداً إلى درجة أننا كنا نحفظ أسماء المشايخ ونعرف أصواتهم جيداً لكننا لم نكن نعرف أشكالهم. البعض استخدم أشرطة الفيديو في تصوير المحاضرات التي يلقيها المشايخ رغم التحذيرات من الفيديو لمن يقتنيه.
قبيل سنوات ظهور الفضائيات كان التحذير شديداً من البث المباشر ونسخت العديد من الكاسيتات التي تحذر من هذا الخطر القادم كان ناصر العمر قد أصدر شريطاً بعنوان: "البث المباشر"، ويكلف التلاميذ بالاستماع للشريط وتفريغ محتواه. بعد سنوات عرفنا أن البث المباشر هو هذه القنوات الفضائية. الوضع لم يبقَ على هذا المستوى التوعوي إذا صح التوصيف. بل تعداه إلى أن الكثير من شباب الصحوة حاولوا العبث في مقتنيات الناس من صحون وتداول البعض من الناس قصصا حول شباب يطلقون الرصاص على صحون البث فوق بيوت من لديه منكر عظيم من هذه المنكرات التي لايخجل الناس من وضعها فوق بيوتهم.
بعد أقل من عشر سنوات بدأ الناس يشاهدون فضائيات إسلامية تحاول أن تكون بديلاً عن تلك القنوات الفضائية الأخرى. بل إن البعض من رموز الصحوة ومشايخها بدأ في الظهور في القنوات التي ينتقدونها، وفي أوقات الذروة. الآن القنوات الإسلامية رائجة جدا في الفضاء العربي الإعلامي، والتنافس بين فضائية وفضائية أخرى كبير جدا في تقديم الأفضل والأجمل والأكثر إثارة، وكل شيخ يقدم نوعا جديدا من الأسلوب الدعوي الذي يتماشى مع العصر ومع الظهور الإعلامي الجيد بدعوى أنها وسيلة دعوية تنشر الخير والفضائل بين الناس وتتم دبلجة برامج تلفزيونية معروفة وأسلمتها، وبمؤثرات صوتية مختلفة عما اعتاد الناس عليها ومتناغمة مع التوجه الفكري لدى أصحاب القناة خاصة في أفلام الكارتون للصغار.
لم يقتصر الحال على ذلك بل إن طرازاً جديدا من العمل الإسلامي الإعلامي بدأ يظهر جلياً على السطح وله رموزه وظهوره المتكرر وهو الفيديو كليب الإسلامي وإن لم أكن مخطئاً فإنني أعتقد ذات مرة شاهدت برنامجاً في إحدى الفضائيات الإسلامية على طريقة ستار أكاديمي فيه مجموعة من الشباب الذين لهم برنامج ترفيهي محدد.
إن كل هذه التحولات الفكرية والإعلامية من داخل الخطاب الديني كانت سوف تكون لامحالة مع تطور العصر وانفتاح الخطاب على معطيات جديدة لم تكن من قبل، مما يجعله يتحول من حال انغلاق إلى وضع جديد مناقض كلية على ما تعود عيه المشاهد العربي. الإشكالية هنا هي في مدى عمق التحولات لدى الخطاب الديني وما يقدمه كوجبة إعلامية يومية للناس.. هل هي تحمل المضامين القديمة بشكل جديد أم أن خطاباً يتشكل داخل هذا الخطاب سوف يكشف عنه الإعلام الإسلامي الجديد؟.