كانت ألمانيا وراء نشوب حربين كونيتين انطلقت شرارتهما الأولى من القارة الأوروبية وكانت مسرحهما الأوّل. كان الأمر أشبه بعملية انتحار ذاتي... بل كان انتحارا ذاتيا، إذ فقدت القارّة الملايين من أبنائها وفقدت أيضا مكانتها الرائدة على المسرح الدولي الذي سادت عليه ومادت طيلة قرون من الزمن.
وبعد أن كانت صانعة الإمبراطوريات وصاحبة القرار الأول فيما يخصّ شؤون العالم الكبرى تراجعت إلى الصفّ الخلفي منذ عشرينات القرن الماضي وزاد تقهقرها خاصّة بعد الحرب العالمية الثانية، كي تتقدّم الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق.
لقد خرجت بلدان أوروبا، "المنتصرة أو المهزومة"، من تلك الحرب مهشّمة اقتصاديا وجريحة سياسيا. وبدا الخيار واضحا أمام الجميع آنذاك. فإمّا الاستسلام لمنطق الخصومات والنزاع وبالتالي لمنطق الحرب والخروج من مجابهة للتحضير لأخرى، وإمّا الجنوح إلى السلام والبناء. وكان الخيار الأوروبي واضحا هو دفن فؤوس الحرب وفتح صفحة المستقبل. وهكذا كان مشروع مارشال لإعادة تعمير القارّة المخرّبة.
ولم تتأخر مسيرة التوحيد الأوروبي عن الانطلاق عندما اقترحت فرنسا عام 1950 تأسيس "المجموعة الأوروبية للفحم والحديد". كانت تبحث من خلال ذلك عن السلام والمصالحة الفرنسية ـ الألمانية وعن زعامة أوروبا في منظور الحصول على دور في العالم.
هكذا كانت الانطلاقة المتواضعة من مجموعة الفحم والحديد هي البذرة التي أنبتت المجموعة الاقتصادية الأوروبية التي أعطت الاتحاد الأوروبي بدوله الـ 27 اليوم. بل أصبح أعداء الأمس، الألمان والفرنسيون، هم محرّك مسيرة التوحيد الأوروبي.
اتخذت مسيرة التوحيد الأوروبي إذن صيغة اقتصادية صرفة في بداياتها. لكن كان تبنّي العملة الأوروبية الموحّدة، اليورو، بمثابة "إعلان نوايا" صريح للتقدّم على طريق توحيد الصوت السياسي الأوروبي. لم يكن المشروع سهلا ولا العقبات قليلة. وإذا كانت النوايا حسنة فإن الحسابات لم تكن دقيقة تماما، فالصوت الأوروبي الموحّد ليس مسموعا تقريبا الآن.
وقد لا يكون من المبالغة القول إن أوروبا السياسية اليوم هي في موقع متراجع عمّا كانت عليه في سنوات التسعينات المنصرمة، وتبدو بدون مشروع وبدون إرادة، كي لا نقول بدون "رجال".
رغم ذلك، شجّع منطق التوحيد، الذي انتعش كثيرا عند سقوط جدار برلين عام 1989، عودة ألمانيا دولة واحدة وأمّة واحدة بعد أن "انشطرت" بين ألمانيتين تترصّد كل منهما الأخرى لمدّة عقود طويلة. صحيح أن ألمانيا أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية بلادا منزوعة القوّة عسكريا كأحد الشروط المفروضة على المهزوم. لكنها رفعت رأسها اقتصاديا وفرضت نفسها كقوّة رائدة على صعيد القارّة كلّها وأصبحت عملتها "المارك" رمز تفوّقها الاقتصادي.
مع ذلك قبلت التخلّي عنه لحساب اليورو. كان الأمر أوّلا خدمة لما تراه مصالحها، وبالتأكيد لم يكن بعيدا عن التطلّع إلى لعب دور جديد على مستوى القارّة بما يشبه عملية إعادة اعتبار واستعادة للقوّة وربما بحثا عن الزعامة. وكانت الأزمة اليونانية الأخيرة التي هزّت اليورو وأوروبا الموحّدة إلى درجة الترنّح. لقد ترددت السيدة ميركل طويلا وتشددت تحت ضغط الرأي العام في بلادها. لكنها مالت أخيرا لصالح الوصول إلى اتفاق حول خطة لإنقاذ اليونان والحالات الشبيهة التي قد تستجد. وأكّدت أن ألمانيا ومستقبلها هما مع أوروبا وليس في الابتعاد عنها. إنها أثارت بذلك غضب الكثير من الألمان، وربما أنّها غامرت بمستقبلها السياسي كلّه. لكن الرهان يستأهل المغامرة بالمنصب.
كما أثبتت دروس أكثر من نصف قرن من الزمن أن البناء الأوروبي "يتغذّى"، رغم النزاعات الصغيرة، بإرادة عدم العودة إلى المناخ الذي قاد إلى نزاعات الماضي القريب الكبرى وخرابها. ثمّ إن التاريخ لا يسير بخط مستقيم والضربات التي لا تقتل تقوّي وتساعد على التقدّم.
صحيح أن أوروبا تتلكأ اليوم، وأن المحرّك الألماني ـ الفرنسي مهدد بالصدأ.
لكن الأوروبيين لا يريدون تكسير الإطار الذي يوحّد صوتهم مهما كانت حدّة انتقادهم لآليات العمل بداخله. إنهم يدركون أنه يشكل حماية لهم حتى من "جنوحهم" وأن موقعهم ومكانتهم يتحددان على مدى تدعيمه في هذا العالم "المعولم". لكن ليس موقعهم ومكانتهم فقط ولكن مكانة وموقع كل من يريدون الانتماء إلى المستقبل.