بعض الفن يكون جليلاً جميلاً؛ حينما يجسّد معاناة بني البشر، كما فعل بيتهوفن في سيمفونياته التسع، تلك التي حملت كل واحدة منها موضوعاً يمسّ البشر وأفكارهم، ويمسّ تحولات إراداتهم، وتقلبات صحتهم. ولم أجد كالمكفوفين إبداعاً، في الحسّ المرهف، وفي الإنتاج الفني بمجالاته المختلفة. فالعمى ليس عمى البصر، وإنما عمى البصيرة، وأعنف العمى أن لا يطوّر الإنسان معارفه وقدراته، وأن يستسلم لحمّى الجهل. فالعمى عمى العقل، وما أجمل من قال:
وليس العمى أن تفقد العين نورها... ولكنه نور العقول إذا استترا
قرأنا بالأمس عن قيام ثمانين طالباً من المكفوفين في ثانوية بالرياض برسم لوحة فنية جميلة حين شاركوا في أداء عرض مسرحي ضمن المنافسات المسرحية التي يقيمها تعليم الرياض.
العرض المسرحي حمل عنوان «مصاعب الحياة» وقدمه طلاب ثانوية الأندلس.
وقد أبدع المكفوفون فنياً، بينما الكثير من المبصرين لا يستطيعون منافستهم في إبداعاتهم. العجيب أن سياق نشر الخبر في بعض الصحف وصف المكفوفين بـ:"المحرومين من النظر"! وأظن أن هذا تعميم فيه مجازفة.
ليست قيمة الإنسان بما يحمله جسده من أعضاء، هناك الكثير من حملة الأعضاء الضخمة، والبنيات القوية هم من الجهال الذين يعيشون في مراحل ما قبل التاريخ. بعض القبائل الإفريقية تتمتع ببنى قوية لكنها لا تزال تستوحش من التمدن، وتظن أن الرقص بين الأشجار هو الطريقة المثلى للعيش، والطريقة الأصح لإكمال مسيرة الحياة. النظر نعمة لمن استثمر هذا النظر في الإنجاز، وإلا فما فائدة ملايين العيون التي لا تحسن إلا النوم والنعاس؟
فقد البصر ليس نقمةً، وإنما العقل والإبداع هو النعمة، لأنه هو الذي يجعل لكل عضو قيمته، ولكل حاسة هدفها.
قال أبو عبدالله غفر الله له: تربطني بالمكفوفين علاقة حب ومودّة، لأنني أعرف عالمهم الشفاف، وأتمثل أحياناً ظلامهم. قابلتُ الكثير من المكفوفين المبدعين. وقرأنا للكثير من الأدباء والشعراء المكفوفين، بل إن شعرهم أنار طرقاً كثيرة. فليس العمى فقدان البصر، ولكن العمى فقدان الرؤية والبصيرة. ولننشد مع بشار بن برد قوله:
شفاء العمى طول السؤال وإنما... دوام العمى طول السكوت على الجهل.