في الغرب، اليوم، شكاوى عديدة وفي مجالات مختلفة تنطلق بهذه الدعوى "ما بعد الحداثة ستؤدي بنا إلى خسارة الديموقراطية والحريات". ما بعد الحداثة هنا تعني الفكر النسبي الذي يقوم على فكرة أن كل الأفكار نسبية وبالتالي فلا يحق لفكرة واحدة أن تقدم نفسها على أنها أفضل من البقية، وبالتالي فإن التنوع والتعدد هو الهدف الأساسي كما أن حث الجميع على إظهار اختلافهم أصبح عنوانا لصحة المجتمع وسلامته. المشكلة كما هي مطروحة اليوم أن هذه الحالة مع الوقت أوصلتنا إلى غياب المعاني الأساسية لتكوين المجتمعات التي تحترم الحريات والتنوع والاختلاف. أي أننا تحت دعوى نسبية الأفكار وصلنا إلى أن فكرتي الديموقراطية والاستبداد بدأتا تقتربان من بعضهما البعض. فالأفكار التي تدعو للتطرف والانغلاق أصبحت تقدم على أنها شكل من أشكال التنوع لا بد من قبوله. أي أن الديموقراطية والحرية بدلا من أن تكون أساسا لتكوين المجتمع لا يمكن الاستغناء عنه، أصبحت أفكارا في ساحة الفكر ليس لها امتياز على البقية.
وبالتالي فإن الجيل الجديد من المواطنين ليسوا قادرين على الحفاظ على أسس الدولة الحديثة ومن السهل انزلاقهم خلف أفكار التطرف والتشدد. الدولة الحالية تم إنشاؤها على مبادئ أساسية من نوع المساواة والحرية بمعنى أن هدف الدولة كان تحقيق هذه الأهداف. كل هذا كان نتيجة أن هذه الأفكار وضعت في سلة مختلفة لا يمكن المساس بها عمليا. اليوم ، مع الأجيال الجديدة ونتيجة فكر ما بعد الحداثة، فإن هذه الأفكار لم يعد لها حضور في الوعي ومن السهل جدا أن تتسرب أفكار مضادة وتسيطر على الأجواء.
لنأخذ مثالا على هذه الحالة، بريطانيا في التسعينات، كان عدد من الخطباء المتطرفين يلقون خطبا عصماء في قلب لندن ويتوعدون هذه البلاد بالفتح الإسلامي القريب. كان أبو حمزة المصري يشير بيده إلى قصر برمنجهام ويتوعده بالفتح القريب. كيف التعامل مع هذه الحالة؟ إلى ما قبل الحادي عشر من سبتمبر كان يتعامل معه على أنه فكر مختلف ويدل على التنوع البريطاني ويدخل ضمن حرية التعبير ويمثل الصوت الإسلامي في المجتمع البريطاني وليس لأحد حق منعه أو حجبه، ولكن بعد أحداث أمريكا وتفجيرات لندن وقتل العديد من الأبرياء ظهرت خطورة الحالة مما اضطر الحكومة إلى القيام بإجراءات رقابة على الخطب والأفكار المطروحة للعموم. ما الذي يجري هنا؟ هل هي حركة محافظة وانغلاق نتيجة الخوف والأحداث المروعة؟ بالتأكيد أن الخوف العام يدفع في اتجاه الانغلاق والمحافظة ولكن الرهان اليوم هو أن تنتج هذه الحالة دفعة كبيرة لمراجعة فكرة ما بعد الحداثة تحت شعارات كثيرة من ضمنها، شعار التنوير الجديد.
حالة الخوف هذه تنتج ردود فعل متنوعة، فالتيارات الأصولية المسيحية واليهودية في أوروبا وأمريكا تطالب بالحد الكبير من الاتصال مع الثقافات الأخرى بل وتطالب بالعودة للجذور الدينية المشكلة للهوية التقليدية للمجتمعات الغربية وبالتالي تخرج لنا أوروبا المسيحية في مقابل الشرق الأوسط الإسلامي. من جهة أخرى يطالب مفكرو التنوير الجديد بمراجعة فكرية كبيرة لفكر ما بعد الحداثة والعمل على التفكير في القيم الأساسية كالديموقراطية والحرية والمساواة، لا بمعنى إعادة التاريخ إلى القرن الثامن عشر بل بمعنى الوعي بالحالة التي يعيشها الإنسان اليوم. فأفكار الاستبداد باسم الدين والاستعباد للآخرين والسيطرة وعزل المرأة عن الرجل ومنع النقد ورفع معدلات التحريم وإيقاف تقدم العلم بمنطق القرون الوسطى لا تزال موجودة وتحضر بشكل لافت للنظر. كل هذا يعني أن الفكر المعاصر، بكل جوانبه، يجب أن يبقى مستحثا ومستفزا للتفكير في هذه القضايا.
قبل خمسين سنة حين كان فيلسوف الأنثروبولوجيا شتراوس ينشر دراساته عن المجتمعات المختلفة، وينتقد بشدة أي نظرة تقييمية لهذه الثقافات انطلاقا من أي مرجعية مغايرة، لم يكن من المفكر فيه أن تنتقل هذه المجتمعات بأفكارها من مساحاتها النائية إلى قلب أوروبا وتطالب بتطبيق ثقافتها الخاصة. لم يكن أحد يتصور أن تأتي جماعة في قلب باريس وتطالب "بمنع" نسائها من الاختلاط أو أن "تلزمهن" بتغطية كل أجسادهن. أو أن يتقدم نواب للتشريع بقانون يحد من حرية التعبير ويقيد الرأي. ولكن اليوم الوضع مختلف. مما يفرض على الفكر سؤالا مختلفا. فإن كان الضمير الأوروبي بعد جرائم الاستعمار أراد التكفير عن ذنبه بتقبل كل الثقافات فإن التجمع الحالي للثقافات المتنوعة في أوروبا أصبح عرضة للخطر ويحتاج إلى حماية لمبادئه الأولى، مبادئ العقلانية وحرية الفرد والمساواة.
حركة التنوير الجديدة اليوم تأتي مدعومة بتقدم كبير في العلوم والتكنولوجيا كما أنها مدعومة بأسئلة كبيرة تتعلق بمستقبل الإنسان على الكرة الأرضية، فمستوى الاتصال الذي وصل إليه البشر اليوم ومستوى القوة التكنولوجية والحربية جعل الجرائم الإنسانية خطيرة جدا بل ومدمرة بشكل هائل، وهذا ما يستدعي التفكير في المستقبل البشري، فحتى الآن تبقى احتمالية الصراع كما نظّر لها هنتنجتون أقرب من نهاية التاريخ والإنسان الليبرالي الأخير التي نظّر لها فوكوياما. التنوير الجديد يريد إحضار النوع البشري في تفكيره بعد أن غاب الإنسان كنوع خلف الانشغال بالأفراد. أي إنها عودة للكلي بعد أن حجبته الجزئيات وأبعدته عن المشاركة حتى أصبح في خطر.