في العاصمة السورية، دمشق عقد في الفترة من 15-19 من شهر مايو عام 2010 مؤتمر تحت عنوان: العروبة والمستقبل، بدعوة من الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية العربية السورية. وقد شارك في المؤتمر، أكثر من ستين مفكرا وباحثا، عدا الضيوف والمراقبين، أثروا المؤتمر ببحوثهم ومداخلاتهم. وكان لي شرف تلقي الدعوة والمشاركة في هذا المهرجان العلمي.
الأبحاث التي قدمت تناولت أكثر من ستة عشر محورا، على تماس مباشر بالعروبة ومستقبلها، شملت العروبة ومكوناتها، وآفاقها الثقافية والحضارية. وأيضا علاقة العروبة بالدولة، والدين والعولمة والهوية. وجرى التنبه لقضية التنوع الإثني، وصلة العروبة بالتاريخ والحداثة. ومقاربة مفهوم العروبة في علاقته بالدولة، وبالبعدين العلماني والسياسي. كما نوقشت العروبة والأصولية الطائفية والمذهبية، والعروبة ومخاطر الهيمنة.
أهمية المؤتمر، تكمن في أنه ينعقد في فترة تتزاحم فيها المخططات للهيمنة على المنطقة، والعبث بتراثها ومكوناتها الثقافية والحضارية، وتتعرض فيها ثوابت الأمة لهجمة غير مسبوقة، حيث غدت الثوابت مرادفة لمراكمة التخلف ومناصرة الاستبداد.
إن ذلك هو ما يحرض على إعادة القراءة، وتصحيح المفاهيم، بما يتسق مع التحولات الكونية التي تجري من حولنا. وينبغي الاعتراف بأن ذلك ليس بالعملية الميسرة والسهلة. فلن يعيد للعروبة اعتبارها إعادة استنساخ أو استعارة المفاهيم التي سادت أثناء مرحلة نهوضها، التي تداعت مع نكسة يونيو عام 1967.
فقد انتهت تلك المرحلة بما لها وما عليها. ومع أن من الصعوبة، نفي وجود واقعة مجتمعية اسمها العرب، تربط المنتمين إليها لغة واحدة، وثقافة واحدة، وتاريخ مشترك. ووعي بانتماء لهذه المشتركات، بما يجعل منها واقعة موضوعية، فإن ذلك لا يغيب التمييز بين مستويات وعي الانتماء لهذا الواقع. وهو ما يميز بوضوح، بين من ينتمي إلى الأمة بحكم الجغرافيا والثقافة واللغة، وبين من يجعل العروبة، انتماء لمشروع نهضة. وذلك ما يجعل من فرد ما، عربيا بالفطرة، ومن آخر ملتزما بهذا الانتماء، وبرسالته في تحقيق النهضة والتطور والنماء.
إن هذا التمييز، يجد التعبير عنه، بنوعين من الانتماء. انتماء وجود ليست هناك من حاجة إلى تأكيده، لأن ذلك يجعله تأكيدا لمؤكد، وانتماء وعي بهوية. الأول، لا يحتمل أكثر من الإقرار بواقعة بشرية، تدعى العرب، أما الثاني: العروبة، فيجعل من الهوية رسالة تاريخية، على العرب، أن يواصلوا دورهم الحضاري، إذا ما أرادوا أن يكون لهم مكان لائق تحت الشمس.
وإذن فنحن نعود من جديد إلى موضوع الهوية. وهو موضوع تناولناه في السابق بالقراءة والتحليل. فالحديث عن العروبة، شأنه شأن حديثنا عن الهوية كمفهوم، ليس لتعريفه صفة الثبات، فهو حالة إنسانية متجددة، تتجدد كما تتجدد الأفكار والمواريث.
وحين نتحدث عن العروبة كهوية، فإننا نعني بذلك خصائص تاريخية ولغوية ونفسية، نتج عنها فصل حاسم بين جماعة من الناس وأخرى. ولا مفر من التأكيد على أن هذه الخصائص هي من جهة، ناتج تفاعل بين تقاليد وموروثات تراكمت عبر حقب طويلة، ومن جهة أخرى، تعكس تفاعلا فوارا مع وضع عالمي متغير باستمرار، ومع موجات ثقافية ممتدة، ونماذج حضارية، تنتج عنها ردود فعل ذاتية، تفرض التعامل بخصوصية مع تلك التقاليد، وتمنحها هوية جديدة.
هذا يعني أيضا أن العروبة نتاج تاريخي وجغرافي، لكنها ليست عفوية. وإذا كانت الهوية من الظواهر الاجتماعية، تبدأ من الأسفل، وتتدرج صعودا إلى الأعلى. تبدأ من المنزل، وتتدرج إلى العشيرة والقبيلة. وتتسع دائرة الانتماء، إلى الجماعة والوطن، وتتآكل الانتماءات الأخرى. وبالقدر الذي يتعزز فيه مفهوم الانتماء للوطن، بالقدر الذي تتراجع فيه الانتماءات الأخرى، لصالح الهوية الأكبر، الهوية الجامعة، هوية الوطن.
العروبة، تمثل مرحلة متقدمة جدا، تتحقق بعد تخطي الانتماءات الأولية واتساع مفهوم دائرة الوطن ليشمل الأمة بأسرها.
إنها في الحالة هذه فعل إرادوي، وسياسي، أعلى نوعيا من فكرة الانتماء إلى العربية. فالأخير نتاج واقع موضوعي أنشأه التاريخ، أما العروبة فهي حركة فوارة، ينبغي أن يصاحبها استراتيجيات وبرامج للنهوض، وحراك يندفع في صخبه المهتمون بنهضة هذه الأمة ومستقبلها، ووضعها على طريق التطور والنماء.