أكتب هذا الأسبوع من شرق آسيا، حيث بدأت ملامح الانتعاش الاقتصادي، في وقت تعاني فيه معظم دول العالم من انحسار في نمو اقتصاداتها، فقد تمكنت دول شرق آسيا، خاصة الصين، من استعادة معدلات صحية للنمو، على الرغم من انخفاض صادراتها بسبب ضعف الطلب عليها من جراء الأزمة الاقتصادية العالمية.

وأحد الأسباب الرئيسية لهذا النمو في الصين على وجه الخصوص أنها تمكنت من تحفيز الاستهلاك الداخلي بدرجة عوضت عن انخفاض الصادرات، وهي بذلك تنسجم مع توصيات آخر قمة لمجموعة العشرين حين دعت الدول التي تعتمد على التصدير إلى تحفيز الاستهلاك المحلي، فاعتمدت الصين على سبيل المثال برنامجاً تحفيزياً ضخماً بقيمة 4 تريليونات يوان (2.2 تريليون ريال سعودي، أو 600 مليار دولار أمريكي).

وقد أدت زيادة الإنفاق الحكومي في الصين إلى زيادة الإقراض من قبل البنوك ونمو الاستثمار تبعاً لذلك، مما كان له تأثير ملموس على نمو الاقتصاد، ونمو الطلب الداخلي والاستهلاك المحلي، وهو ما تستطيع أي حكومة التأثير فيه أكثر من قدرتها على التأثير على الطلب القادم من الدول الأخرى.




ولكن هذا النمو السريع صاحبه عدد من السلبيات، مثل الفساد، الذي وصل حجمه في الصين، حسب تقديرات مؤسسة كارينجي الأمريكية، إلى نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يزيد عن 100 مليار دولار سنوياً. ويبدو هذا المبلغ كثمن لهذا النمو السريع، ناجم عن التوسع الكبير في الاقتصاد دون توسع يقابله في المتابعة والتقييم والمراقبة والتحقيق، خاصة أن المسؤولين الحكوميين ما زالوا يمارسون صلاحيات واسعة في إدارة الاقتصاد، مما يجعلهم عرضة للإغراءات، ويدفع أصحاب المصالح إلى محاولة التقرب منهم.

وفي استطلاع حديث للرأي قامت به الحكومة، رأى 75% من الصينيين أن الفساد هو القضية رقم 1، وقامت عدة مظاهرات للاحتجاج على الفساد، وهي ظاهرة نادرة في الصين. ولذلك شنت الحكومة الصينية حرباً شاملة على الفساد، ورأينا في بعض الحالات كيف تحركت الحكومة بقوة في الحالات التي تمس المواطن بشكل مباشر، كما حدث في محاسبة المسؤولين عن تسميم حليب الأطفال العام الماضي، حيث حُكم على اثنين منهم بالإعدام وعلى الثالث بالسجن المؤبد. ولكن البعض يرى أن الصين لما كانت ليس لديها نظام قضائي أو تحقيقي مستقل بالمعنى المتعارف عليه، عرضة للاتهام بأن إجراءات مكافحة الفساد فيها تظل مُسيّسة على نحو آخر، أي أنها ربما استُخدمت حملة مكافحة الإرهاب لتصفية الحسابات أو التخلص من الخصوم والمنافسين، وهناك أمثلة على ذلك كثيرة.

وقد اعتمدت الحكومة فترةً طويلةً على شدة العقوبات رادعاً لارتكاب جرائم الفساد، ولما لم يكف ذلك، بدأت بتبني وسائل جديدة، وسنّت نحو 1200 قانون وتنظيم لمكافحة الفساد. وأنهت المعاملة اللينة التي كان بعض المتنفذين يتمتعون بها، مثل كبار أعضاء الحزب والأغنياء. وكمثال على ذلك، تم اعتقال هوانج جوانجيو Huang Guangyu ثاني أغنى أغنياء الصين في أواخر العام الماضي، تبعه اعتقال الرئيس السابق لوكالة الطاقة النووية، والرئيس السابق لشركة سينوبك (شركة النفط الوطنية)، والعمدة السابق لمدينة شينزن، واثنين من نواب رئيس هيئة كرة القدم ... وغيرهم وحسب بعض التقديرات، هناك ما يقارب 150 ألف حالة فساد أو رشوة يتم التحقيق فيها سنوياً.

وقامت الصين مؤخراً بمنح المحققين صلاحيات وإمكانات واسعة لتصيد عمليات الفساد، وأجازت لهم التحقيق مع الأقارب والأزواج والزوجات، الحاليات والسابقات، مما نتج عنه كشف الكثير من حالات الفساد، ويستخدم المحققون الصينيون الإنترنت للحصول على معلومات أو "خيوط" لعمليات فساد.

وبالمقابل تقوم بعض الحكومات الأجنبية بالتحقيق في أعمال شركاتها في الصين، خاصة تلك الدول التي سبق أن سنت قوانين تتيح لها معاقبة تلك الشركات على أعمال الفساد خارج أراضيها، ومن ذلك الولايات المتحدة التي تبنت "قانون أعمال الفساد الأجنبي"، وغرمت مؤخراً عدداً من الشركات الأمريكية مثل لوسنت تكنولوجيز التي كانت توفر للمسؤولين الصينيين رحلات وسفرات مدفوعة الثمن للترفيه، ولا علاقة لها بعمل الشركة. ولكن اجتثاث الفساد أمر شبه مستحيل، في ظل الفرص الاقتصادية الكبيرة في الصين، ودور الحكومة في الاقتصاد، مما يعطي موظفيها، وأغلبهم ذوو مرتبات منخفضة، صلاحيات واسعة تترتب عليها مليارات الدولارات، وتجعلهم عرضة للمغريات.

ومع أنه من السابق لأوانه القول إن الفساد في الصين سيؤدي إلى وأد النمو الاقتصادي، أو حتى إضعافه، إلا أنه ليس ثمة شك بأن الفساد يضعف ثقة المواطن بالحكومة، وربما أضعف سلطة الحكومة والحزب، ومصداقيتهما، وشرعيتهما، وهذا هو الدافع الحقيقي للحكومة للتحرك ضد الفساد.