وكأن الشباب الذي ظَهَر في حلقة (مُمانعة القِوى السائدة) - (Resist the Power) التي عُرضت على قناة MTV America، واستعرضت أصواتاً شبابية صاعدة، حاولت التعبير عن ذاتها وتطلعاتها، وقاربت أقدارها وأحلامها من داخل دوائر التشدد والانغلاق، في سبيل التغيير، و"ممانعة" السائد.. وكأنه قد أسدى لنا معروفاً عظيماً! كأن أولئك الشباب في ظهوره بمظهر الثائر على التقاليد، وفي التأكيد على تمردهم ضداً على آليات التعاطي (Coping Mechanism) مع ما هو متاح من المساحات المدنية والاجتماعـ ـ تنموية المحدودة جداً، إنما أراد لفت الأنظار إليه وحشد قنوات الرأي العام إزاء قضاياه التي باتت من طبيعة انفجارية حاسمة. كان الزميل محمد جزائري في تغطيته الهادئة للحدث على صفحات (العربية.نت)، قد انتهى بشيء من النباهة إلى أن غاية ذلك الشباب، يمكن جداً اختصارها في رغبته بالجهر بكلمة واحدة، مفادها: "اسمعونا"!.. أمرٌ مشروع، ليس فيه ثمة ما يُهين أو يخدش أي إهاب! أن تعوز تلك "الصرخة" أطر اللياقة، أو أن تتطرف في إمعانها في تبني النبرة "السِينِكاليّة" (المتشائمة) المُغالية، فهذا أمرٌ جائز، أما أن توصف بشكل مجانيّ بأنها "تشويه" مُتعمد لصورة المجتمع السعودي، أو "نقض" لفضائله و"تقويض" لأي من دعاماته، فذلك بطشٌ صريحٌ في الخطاب، بل إنه هو العسف بعينه!
كانت استطلاعات بحثية أخيرة صادرة عن إحصاء مركز آدم بِكتر التابع لجامعة (برنستون) قد أظهرت تنامي حالات السخط بين الشباب إزاء القيود الاجتماعية المفروضة عليه داخلياً، كنا قد تغافلنا ملء جفوننا عن شواردها، بل وعن عشرات ومئات الدراسات والشواهد الحيّة الماثلة أمامنا، ليأتي بعض أبناء جلدتنا ويصادر بكل إرجاف وتمويه كل مُعطيات الواقع ومُجرياته، بل ويدعّي بشيء من "البراءة" –أو "البلاهة"- المُصطنعة، إلى أن حلقة بوح شبابي في قناة فضائية، أو ركوب دراجة هوائية رمزي لفتاة في عمر الزهور، إنما يهدد "الأمثولة" القيميّة الاجتماعية في صميمها، أو أنه يهين الانتماء الوطني في أصله؟!
إن الذي يجري إغفاله هنا، أن قضايا الشباب، سواء في أزمة الهوية الواضحة أو عذابات الذات والكينونة، أو مُحددات فجوة الأجيال واعتسافات النظام المجتمعي الأبوي الهرمي، إنما هي أزمة واقعة ومُتجذرة، بل إنها ذات طبيعة كونية مُشتركة، لا يفيد تناولها بهذا العسف المنهجي والتجني الانتقائي، ولا بأساليب التطيّر والتهمة والمزايدة الرخيصة.. فيما الأدعى تبيين خصائص تفكير شرائح الشباب لدينا، وتبيّن دوافع سلوكها ونظام تفكيرها، بأسلوب تربوي بعيد عن مفاهيم الإدانة والمحاكمات اللفظية، بله الإجرائية!
أليس الأدعى على من لا يلبث في كل مناسبة مثيلة، إلا ويلوّح بشبح التجريم والإدانة والمحاكمة والاحتساب، أن يجيّر جهوده في الانخراط في مطالب الحوار والاستيعاب والسجال البنّاء؟
أليس من الأجدى أن نتساءل فيما بيننا فنقول: أين مؤسسات المجتمع المدني التي من المفترض أن تستثمر طاقات الشباب في برامج التربية المدنيّة، وهي تُكسبهم المهارات القيادية والتنظيمية اللازمة، وترفع من وعيهم بالمواطنة وتزيد من إنتاجيتهم، ناهيك عما تقدمه من ضمانات تُحافظ على السلم والتكاتف الاجتماعي العام؟!
نحن لا نقول إن كل ما قاله أولئك الشباب أو قام به في الحلقة الفضائية المذكورة مُشرّف أو داع للاحتفاء.. ولكن إزاء مجريات الواقع، وحيث تتحول الأمور بوتيرة مُتسارعة.. تبرز الحاجة إلى حضور سياسات أكثر نعومة وتسامحاً وقدرة على الاحتواء الجوهري.
حقٌ علينا أن نُميّز بشكل يقيني بين من يتخذون من الاحتساب والأمر بالمعروف سبيلاً إلى مصادرة مجريات الواقع، وبين من يَمشون في نور الشمس مرفوعي الرؤوس، ممتلئي الإيمان والثقة بإنسانية الإنسان وكرامته الوطنيّة المتعالية، ويتعاملون مع حقائق الأشياء وتحوّلات التاريخ بشجاعة وواقعية ترفض الادعاء والتزييف.
ثم إن مفهوم "الفضيلة" ودعوات "الحفاظ" عليها، مسألة باتت مُلتبَسَة فضفاضة، تحتمل بدورها أكثر من ظن واعتقاد. أيهما –على سبيل المثال- أكثر فضيلة؟ النظام الزائد عن الحد في المجتمع، أم حرية الأفراد في الجهر بالآراء؟.. كان المُفكر الإسلامي جودت سعيد هو الجازم بأن مصير الشعوب، ومقدار حضارة كل أمة، لا يتوقف على تعزيز قيمة النظام مقابل الانحلال، بقدر ما يتوقف على قيمة الفرد. فالجماعة التي يسودها التنظيم المتشدد الزائد عن الحد، يتلاشى فيها الفرد. وكان محمد إقبال قد لاحظ من قبله: "أن القوة الفعالة التي تقاوم انحلال الشعوب إنما هي تنشئة أفراد ذوي فردانية قوية.. يجهرون بمقاييس جديدة".
الشاهد هنا: أنه يجب علينا أن ننتبه من خطورة احتكار "مقاييس" بعينها للفضيلة وللكرامة الإنسانية المُتعالية.. بل وحتى لأصلانية الانتماء الوطني كما بات يصيب مؤخراً -أي مُختلِف- بإرهاب لفظي عنيف!
فكما أن مُمانعة "الممانعة للسائد"، تكبح نزعاتها بسلاح "الاحتساب".. بات خليقا بممانعي السائد، الاحتساب، بدورهم، ضداً على أوهام "الاحتساب"!