وأخيرا تحقق حلم الأطباء القديم برؤية مايحدث داخل الخلية من مستوى النانو؟ فقد أعلن ستيفان هيل (Stefan Hell
47) من معهد ماكس بلانك في جوتنجن، من قسم كيمياء الفيزياء الحيوية بتركيب المجهر الجديد (ستيد STED) الذي يباع بمليون يورو ويرى التراكيب الكيماوية وهي تعمل على قيد الحياة.
مازلت أذكر جيدا من أيامي في كلية الطب قبل 45 عاما أحلام الطب في عدة مستويات؛ الأول تكبير الكائنات إلى حافة رؤية الذرة، وقد وصل المجهر الإلكتروني إلى مايزيد عن مئة ألف مرة ويزيد، ونطمع بالقفز مع المجهر البروتوني إلى 800 ألف مرة، وكل هذا يعتمد على الموجة، ولكن المشكلة مع التكبير هي التجميد، وهو يذكر بقانون الارتياب الذي وصل له الفيزيائي والفيلسوف فيرنر هايزنبيرج عن جدلية وتناقض حواف السرعة والمكان في معادلة الإلكترون، فإذا عرفنا السرعة ضاع عنا المكان، وإذا عرفنا المكان لم نعد نعرف السرعة.
والأمر في التكبير هو كذلك؛ فإذا كبرنا كما في المجهر الإلكتروني وجب تجميد الكائن أو القطعة المراد رؤيتها من فيروس وبكتريا وآحينات وسواها، ولكن مع التكبير يختفي معنى الشيء، والمثل في هذا البعوض الملعون فرؤيته تحت المجهر تجعلنا نعرف تركيبه التشريحي، ولكن كيف يعمل وكيف يلدغ وكيف ينقل الأمراض وكيف يضرب ضربته ونحن لانحس وهو يحفر جلدنا ويشفط دمنا ويحقننا بالسموم والأمراض فهذا لانعرفه إلا بعد أن يولي الأدبار، وأنا شخصيا أخاف ولو من بعوضة واحدة، فهي كافية كي تحرمك من النوم بل الحياة، فالأمر جد وليس بالهزل، فمكتشف قبر توت عنخ آمون كان هوارد كارتر ومموّله كان اللورد كارنارفون، الذي لسع ببعوضة بعد الاكتشاف مباشرة فمات منها وسرت إشاعة لعنة الفراعنة وهي باختصار لعنة البعوض الخبيث.
ولذا فستيفان هيل هذا ضرب ضربته بتقنية جديدة تحايل فيها على قوانين الضوء وطول الموجات، وتعود القصة إلى رجل فذ وصل إلى حقيقة عجيبة منذ عام 1873 م هو ( إرنست أبب Abb Ernst) الذي ينص على أن حواف الرؤية في الضوء هي 200 نانو، أي خمسة من الألف من الملمتر، وكل ماصغر ودق عن هذه الحافة غاب واختفى فلا يرى؟
ومن أجل حل هذه المشكلة فقد تم تطوير المجهر الإلكتروني الذي يكسر هذه الحافة بقراءة الكائنات أصغر من واحد بالألف من النانو متر، باختراع طريقة جديدة في الرؤية لاتعتمد الضوء العادي، بل موجات الإلكترون، ولكن على حساب جمود المرئي من الحركة في وسط فارغ من الهواء، حيث إن الضوء العادي أمواجه هي في حدود بضع مئات من الميكرونات.
إن الميتوكوندريا في الخلية مستودعات للطاقة تتكون من آحينات بحجم 500 نانو وهي أنحف بـ140 مرة من شعرة رأس أحدنا يمكن رؤيتها كالعمالقة في هذا المجهر من خلال تقنية لعب شعاع الليزر على الليزر فيمكن توجيه شعاع الضوء واللعب به ورؤية الأدق فالأدق.
معنى هذا الكلام أنه يمكن دراسة خلايا الدماغ على قيد الحياة فنرى التراكيب الكيماوية وما يحصل لها في التفكير والتذكر والمتعة، وبالعكس تحريض المادة للوصول إلى العاطفة المرجوة .. إنه عالم جديد بانتظارنا.