لم يكن حتى أكثر المتشائمين يعتقد أن نفوذ تنظيم القاعدة يمكن أن يتمدد في اليمن إلى ما هو عليه اليوم، فبعد سنوات من الصراع المرير بين التنظيم والسلطات اليمنية ومعها الأميركية والمجتمع الدولي بأسره، خاصة منذ الهجوم على المدمرة الأميركية (يو.إس.إس.كول) بميناء عدن عام 2000، وما تلا ذلك من حرب شاملة ضد التنظيم في أكثر من منطقة، تتمسك القاعدة بقواعدها التي وجدت فيها، بل وانتقلت إلى مواقع أخرى في البلاد. اليوم يحضر تنظيم القاعدة بشكل فاعل في أكثر من منطقة يمنية، خاصة في المناطق الجنوبية من البلاد، والتي تحولت إلى ساحة مفتوحة للمعارك بين التنظيم، الذي استولى على منطقة زنجبار في محافظة أبين وأعلنها "إمارة إسلامية" في شهر مايو من العام الماضي، والسلطات اليمنية على الأرض والأميركية جواً، والتي تنفذ غارات جوية بواسطة طائرات بلا طيار.
وبدأ تمدد القاعدة يخيف السلطات اليمنية، وقبلها السلطات الأميركية والغرب عموماً، وجاء احتلال القاعدة لمنطقة رداع بمحافظة البيضاء قبل نحو 3 أسابيع ليدق ناقوس الخطر القادم، بعد أن أعلن التنظيم عن إقامة "إمارة رداع الإسلامية".
أوضاع رخوة
في ظل الأوضاع التي يعيشها اليمن هذه الأيام، والتي تعد نتيجة طبيعية لسنة كاملة من المواجهات الدامية بين نظام الرئيس علي صالح ومعارضيه الذين يطالبون بالإطاحة به من السلطة، تمكن تنظيم القاعدة من استغلال هذا الفراغ الكبير الذي تركته القوات النظامية في المناطق الجنوبية، أو ما تعرف بـ "الأطراف" بعدما اضطر الرئيس صالح إلى استدعائها إلى صنعاء في محاولة لكبح الانتفاضة ضده.
تمدد تنظيم القاعدة جنوباً، أي إلى المناطق الساحلية بعد أن حوصر في المناطق الجبلية التي نشأ فيها واحتضنته جبالها، مثل محافظة مأرب والجوف، ووجد التنظيم منطقة أبين مكاناً سهلاً لترسيخ قواعده أكثر، وكانت البداية الأولى والحقيقية في نهاية مايو من العام الماضي، عندما أمر الرئيس صالح القوات التي كانت تتولى حماية المناطق في أبين بالانسحاب والقدوم إلى عدن وصنعاء لتعزيز قواته التي صارت تحارب على أكثر من جبهة، خاصة في المناطق المحيطة بالعاصمة، مثل الحيمة وأرحب وبني جرموز وهمدان، إضافة إلى محافظة تعز، جنوب العاصمة صنعاء.
وجاءت هذه الخطوة مواتية للتنظيم لاحتلال مدينة زنجبار وتشريد عشرات الآلاف من أبنائها، وإعلانها إمارة إسلامية، بعدما خاض التنظيم معارك شرسة مع ما تبقى من قوات بسيطة خاصة في منطقة الكود، بزعامة اللواء محمد الصوملي، بعدما ظلت القوات التي يقودها محاصرة من قبل القاعدة لمدة تزيد عن 6 أشهر، قبل أن يتم تحريرها والتحاقها بقوات قدمت من مدينة عدن.
غيبوبة النظام
وفي الحالة اليمنية اليوم ومع دخول النظام حالة من الغيبوبة، حيث تعيش البلاد حالة من الانفلات الأمني تتجسد في العديد من المظاهر، أبرزها غياب دور المؤسسات الأمنية في المشهد كله، والحرب التي تشن اليوم ضد تنظيم القاعدة تختلف عن بقية الحروب، يقاتل التنظيم تحت سيناريو احتمالات عدة لمصير النظام، من بينها السقوط الكامل ودخول البلاد مرحلة الفوضى الشاملة، لذلك رمى التنظيم بكل ثقله إلى الميدان ليصبح قادراً على لعب دور هام في المستقبل، أو على الأقل يصبح أحد اللاعبين الأساسيين في المشهد المقبل، خاصة في المناطق الجنوبية من البلاد.
وتثار تساؤلات من قبل الكثير من المراقبين عن الدور الذي يمكن أن يلعبه تنظيم القاعدة في هذه الفترة في ظل غياب التجانس العسكري والأمني في القيادة اليمنية، خاصة بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني التي يتولى المؤتمر فيها مسؤولية وزارة الدفاع واللقاء المشترك مسؤولية وزارة الداخلية، وفي هذا يرى المراقبون أن القرار في الحكومة لم يعد قراراً واحداً، بل صار يتوزع بين اثنين لهما رؤيتان مختلفتان للأوضاع، وبالتالي صارت مواجهة القاعدة أصعب من ذي قبل.
ورقة مساومة
لقد حاولت صنعاء خلال الفترة القليلة الماضية أن تبقي ورقة تنظيم القاعدة كورقة للمساومة مع الولايات المتحدة الأميركية، وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير، فالولايات المتحدة أبطأت في عملية التحرك لحل الأزمة السياسية القائمة في البلاد منذ اندلاعها في الحادي عشر من فبراير من العام الماضي، مراعاة لطبيعة التعقيدات التي تعاني منها السلطة في حربها ضد تنظيم القاعدة، وعمدت واشنطن إلى "التهدئة" في معالجة الملف السياسي الداخلي من خلال عدم مطالبتها للرئيس صالح بالرحيل الفوري، كما حدث مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك، إذ كانت ترى في الرئيس صالح شريكاً أساسياً في مجال مكافحة الإرهاب، وقد رصدت لوحدة مكافحة الإرهاب التي يترأسها نجل الرئيس صالح.. العميد أحمد علي عبدالله صالح مبالغ مالية ضخمة خلال السنوات الأخيرة، بخاصة منذ إنشاء هذه الوحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأميركية، واستمر هذا الدعم طوال هذه السنوات، سواء على شكل أموال سائلة أو تدريبات أو تسليح لقوات صارت تعرف بـ "قوات النخبة" والتي كلفت بمهام ملاحقة عناصر القاعدة في كافة مناطق البلاد.
حضور فاعل
واليوم.. وبعد أن تحول تنظيم القاعدة إلى خطر جدي؛ فإن الولايات المتحدة لا تريد لهذه الجهود والإمكانيات أن تذهب هباء، لذلك فإنها تحرص على إبقاء حضورها فاعلاً في هذه المعركة، لأنها تدرك أن تنظيم القاعدة، في حالة عزز حضوره في البلاد، يمكن أن يتحول إلى ساحة جديدة من ساحات المواجهة المقبلة للولايات المتحدة، فالقاعدة لم تعد تشكل مصدر قلق للسلطات اليمنية أو الأميركية فحسب، بل صارت تشكل عامل قلق لكافة دول الإقليم وللعالم كله، على الرغم من نجاحها في التخلص مما تسميه "الأب الروحي للقاعدة" أنور العولقي في غارة نفذتها في سبتمبر من العام الماضي.
لذلك ترى الولايات المتحدة الأميركية أن "الأوضاع الرخوة" في اليمن يمكن أن تشجع تنظيم القاعدة على شن مزيد من الضربات بهدف الاستيلاء على أراض جديدة في جنوب ووسط البلاد، وربما كانت الضربة التي وجهتها واشنطن لاجتماع كان يعده عدد من عناصر القاعدة وقتلهم في أبين قبل أيام قليلة دليلاً على أن واشنطن تدرك أن التهاون مع خطر القاعدة يمكن أن يجر الكثير من السلبيات لجهودها في محاربة القاعدة.
وجاء سلوك تنظيم القاعدة في أبين مثلا، بخاصة في جعار وزنجبار من خلال قيامه بممارسة المهام التي كانت تقوم بها أجهزة الدولة، ليعطي مؤشرات خطيرة عن قدرة التنظيم على إحلال نفسه كبديل للدولة في المناطق الجنوبية من البلاد، وبالتالي يصعب التخلص منه بعد أن يثبت أقدامه فيها.
وما يزيد المخاوف من ذلك أن أبين وعدداً كبيراً من المناطق الجنوبية، يمكن أن تتحول إلى أرضية خصبة لاستقطاب عناصر القاعدة ما يشكل تهديداً جدياً للجهود الدولية لمكافحة الإرهاب.
بوابة عدن
وتدرك الولايات المتحدة أن قدرتها على إنهاء نفوذ تنظيم القاعدة تتمثل في مواصلة التعاون مع السلطات اليمنية القادمة، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في الحادي والعشرين من شهر فبراير الجاري، على الرغم من أن التعاون مع صنعاء لم يتوقف، سواء مع الرئيس صالح أو مع نائبه عبدربه منصور هادي، بخاصة بعد الأزمة الحالية.
لذلك تحرص واشنطن على جعل معركتها مع القاعدة أولوية في علاقتها مع اليمن، وتدرك أن القضاء على القاعدة يتطلب استقراراً في البلاد، لهذا تحاول مع بقية الأطراف الإقليمية والدولية إنجاح المبادرة الخليجية للوصول إلى يوم الحادي والعشرين من الشهر الجاري في ظل أوضاع "تحت السيطرة" بمعنى أن بقاء القاعدة في المناطق التي توجد فيها أفضل من انتشارها إلى أماكن أخرى.
مكامن الخوف الأميركية من تمدد القاعدة يعكسه ما يتردد عن خطة للقاعدة لدخول مدينة عدن، بحيث تصبح المدينة على مرمى حجر من نفوذ التنظيم، فواشنطن ومعها السلطات اليمنية تدركان أن دخول القاعدة إلى مدينة عدن، يمكن أن يسبب صداعاً مزمناً للجميع على مدى سنوات طويلة، لذلك تبذل الجهود اليوم من أجل إبقاء الحال "على ما هو عليه"، فيما يسابق تنظيم القاعدة الزمن من أجل إعادة خلط الأوراق من جديد في الساحة من خلال دخول عدن خلال الفترة التي تسبق إجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة، وهو ما مهد له التنظيم من توزيع منشورات تؤكد جدية التنظيم في احتلال المدينة أو على الأقل البقاء على مقربة منها.
تعزيز موقف القاعدة
من هنا يرى مراقبون أنه في ظل التعقيد في المشهد السياسي القائم في اليمن، تبدو إدارة الحرب ضد القاعدة مختلفة تماماً، فتنظيم القاعدة سوف يحاول بكل جهده استغلال هذا الوضع الاستثنائي لتعزيز موقفه في الساحة وتثبيت مواقعه في المناطق التي يوجد فيها، في إطار مسعى لإنشاء "إمارة إسلامية لجزء من اليمن على الأقل" تكون قادرة على فرض مشروعها في المستقبل، كما أنها تريد أن تصبح لاعباً مؤثراً في الساحة خلال السنوات القليلة المقبلة، أما مشروع الدولة اليمنية في حالة استتباب الوضع وخروجها من "الغيبوبة" القائمة اليوم؛ فإن مهمتها ستكون تصفية كل جيوب التنظيم من الأراضي اليمنية والعمل على إسقاط هذا المشروع، وسيكون ذلك في إطار التعاون القائم بين النظام والدول الفاعلة في المعركة ضد القاعدة والتي تقدم مساعدات سخية من أجل هذه المعركة، بخاصة الولايات المتحدة الأميركية والسعودية، وهذه المهمة لن تكون سهلة.
القاعدة ـ الفزاعة
على الرغم من المخاوف التي يبديها الكثير حول قدرة القاعدة على إعادة رسم الخارطة في اليمن، قياساً إلى ما قامت وتقوم به في الوقت الحاضر من توسع لنشاطها في مناطق مختلفة من اليمن، إلا أن كثيرين يتوقعون أن يضعف تنظيم القاعدة خلال الفترة المقبلة إذا ما كثفت السلطات المقبلة من نشاطاتها ضد التنظيم، سواء من حيث ملاحقة أعضاء التنظيم الذين يوجدون في بعض المناطق أو عن طريق قطع الإمدادات البشرية القادمة إلى اليمن عبر الحدود وتجفيف مصادر الدعم المالي الذي يصل إلى هذه العناصر.
ويقول الباحث في شؤون تنظيم القاعدة سعيد الجمحي "إن هناك مبالغة في حجم وتأثير تنظيم القاعدة في البلاد،" مشيراً إلى أن الأميركيين لم يعودوا يركنون إلى تقييمات الأنظمة العربية وأجهزتها الاستخباراتية، بخاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأميركية، وأضاف "الأميركيون صاروا على دراية بطبيعة الأوضاع في المنطقة العربية وبدؤوا في التعامل مع تنظيم القاعدة بناء على معلوماتهم وليس بناء على معلومات غيرهم، وهذا اختراق كبير للاستخبارات الأميركية."
ويرى الكثير أن توحيد الجهود اليمنية أولاً، بالإضافة إلى التعاون مع الإقليم والولايات المتحدة الأميركية يمكن أن ينهي "فزاعة القاعدة" في اليمن، إلا أنهم يربطون ذلك بمدى جدية السلطات اليمنية القادمة في معالجة الأوضاع الاقتصادية للناس، فالأوضاع المعيشية المتردية وحالة الفقر التي يعيشها اليمنيون من جراء الأزمة الحالية وأزمات سابقة، يمكن أن تدفعهم بالاتجاه إلى حضن القاعدة إن لم يكن اليوم فغداً.
بدون معالجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة لليمن يمكن أن تتحول القاعدة إلى خطر كبير لا يمس اليمن فقط، بل ويمكن أن يحرق ثوب المنطقة كله، ويمكن أن تتحول القاعدة إلى دولة تحاول اليوم أن تبنيها بالأخطاء التي ترتكب من قبل بعض القائمين على محاربة التطرف في الداخل والخارج على السواء.