في جملة بالغة الدلالة، قال المفكر الداعية، سلمان العودة عن جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حديثه الطويل عنها ما قبل الأمس: إنها فكرة نمطية في مجتمع غير نمطي. وبالطبع، من الخطأ الجسيم أن ننظر للجملة اجتراراً يهمل ما كان قبل الجملة وما بعدها، وأنا لا أكتب اليوم عن الهيئة، وإلا لاكتفيت أن أهدي هذا الجهاز حديثاً رائعاً مليئاً بالإشادة في آن وبالنقد الموضوعي مثلما استمعت لسلمان العودة بكل المتعة. أنا أتحدث اليوم عن الأفكار النمطية في مجتمع غير نمطي، وللتبسيط: عن القوالب الثابتة في مجتمع متحول. عن الأفكار التي تحاكي قياسات فترة خلت فيما المجتمع المستهدف بهذه الأفكار قد قفز للمرحلة التالية أو ربما ما بعدها وهنا تبدو مفارقة سوق العرض والطلب. أفكار من موضة خلت تحاول أن تبيع نفسها لمجتمع تبدلت قياساته بفعل التحول. باختصار للتوضيح: ملابس سن العاشرة التي تحاول أن تبقى في (دولاب) رجل بلغ الثلاثين من العمر. ولنبدأ بتوصيف المجتمع المتحول (السوق) كي نعرض أمام أصحاب الأفكار (البضاعة) أوجه الخلل التي أدت إلى هذا الاضطراب الهائل في العلاقة ما بين أهل السوق وباعة البضاعة. يقول سلمان العودة إن أكبر مكتبات بيروت اليوم تخصص نصف منتجها من الكتب استهدافاً للشأن السعودي، فكراً وإبداعاً وقصصاً وتحليلاً وكل هذا بقانون العرض والطلب. كل المؤشرات تؤكد أن المجتمع السعودي يعيش في العقد الأخير حراكاً اجتماعياً وثقافياً مدهشاً وأنه يتصدر كل الأرقام العربية في الإنتاج وفي الاستقبال، ومجرد نظرة إلى إحصائيات وأرقام تقرير التنمية العربية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي ستؤكد هذه الحقيقة. تتصدر السوق السعودية لائحة النشر العربية، مثلما هو أيضاً نصف سوق الكتاب العربي في رقم المبيعات، تماماً مثلما هو رأس المال السعودي من يسيطر على حركة الفضاء الإعلامي العربي، مثلما هو بكل المؤشرات أكبر مستخدم لتقنية – الإنترنت – وأكثر الشعوب العربية في الدفع لهذه التقنية من الورق الإلكتروني تصفحاً ومشاركة.
تقول الإحصاءات أيضاً إن عدد المسافرين المواطنين إلى خارج الحدود يساوي عدد نصف سكان الدولة بأكملها في العام الواحد (هذا لا يعني أن نصفهم يسافر في القراءة المسطحة للرقم) وهو رقم قياسي لا تنافسه فيه إلا ثلاث دول خليجية. هي ذات الإحصاءات التي تشير إلى أن الطلاب السعوديين هم اليوم ثاني أكبر جالية أجنبية في الجامعات البريطانية، ورابع أكبر جالية في أرقام تأشيرات الدراسة من منافذ الدخول إلى المؤسسات الأكاديمية الأمريكية. كل هذه المؤشرات المرتفعة بجنون تتمحور في الإعلام والثقافة والتعليم والسياحة وأقنية المعلومات، وإذا لم تكن هذه الحقول الخمسة هي محركات التحول المجتمعي ودلالات الحراك فماذا تكون الدلالات والمؤشرات؟ وكل ما أخشاه أن هروب السعودي بهذه الكثافة المدهشة إلى هذه الحقول الخمسة آنفة الذكر، ومن ثم تسجيله صدارة الأرقام فيها ليس إلا لأن القوالب النمطية في الداخل لم تعد تتسع له وهو في معمعة هذا الحراك والتحول. يطبع السعودي كتبه ومؤلفاته خارج الحدود لأن – الأفكار النمطية – للرقيبين الاجتماعي والرسمي لا تسمح له أن يعيش مرحلته الفكرية بالضبط وحينما يريد مسايرة هذا الرقيب فإن عليه أن يكتب لعصر منقرض ولجيل منقرض ومرة أخرى فإن الفكرة النمطية (الرقيب) لا تريد أن تتطور لتساير المجتمع المتحول. يتدافع السعوديون إلى منافذ الابتعاث إلى جامعات الدنيا لأنهم لم يفقدوا الثقة في أي أمل بتطوير المنهج في الداخل فحسب، بل إن ثقافة الاتصال أوصلتهم لمعرفة أين يقف العالم من عصر العلم، ومرة أخرى فإن جمود النمطي المألوف الذي يرفض أن يتغير أو يتطور لم يعد يتسع لمواكبة مجتمع متحول. يتزاحم السعوديون على كل منافذ السياحة ومقاعدها إلى كل فج عميق من هذه الأرض كي يقتل النفاق الاجتماعي المتغلغل في أحشائه لأن السعودي يعيش بجلدين: عولمي منفتح ومدفوع بقدرة مادية، وآخر تقليدي نمطي وهنا قمة الصراع ما بين المتاح وبين الممكن، وما بين النمطي من الأفكار في مجتمع تثبت البراهين أنه عكس الفكرة.
يقبل السعوديون على اقتفاء آخر صيحة من الفضاء والإلكترون، ومثلما هم يشكلون جوهر الاستهداف في السوق الدعائي الإعلاني، فهم أيضاً أغلبية المشتركين في القنوات مدفوعة الثمن ولا تفسير لهذه الظاهرة الإعلامية إلا محاولة الهروب من النمطي التقليدي إلى ما يناسب لبوس المجتمع المتحول. هروب إلى مساحة أكبر من الحريات الاجتماعية في التعبير والتلقي والتنوع ومصادر الأخبار وأفكار الترفيه والفنون بما يناسب الجلد العولمي المنفتح المكبوت في دواخلهم من جراء الأفكار النمطية. ماهي بقية الأفكار الأخرى النمطية في قلب مجتمع متحول؟