(الحمد لله .. الآن أشعر بارتياح ضمير، فلم أكن على خطأ عندما كنت أسمح لابنتي أن تحتفل بعيد ميلادها، وتدعو صديقاتها، وتختار لها أمها نوع الكيك الذي تحبه، أنا أدرك أن سلمان العودة عالم صادق، ولن يقول إلا ما يدين لله به، ويخفف عنا التحريم المطلق الذي نواجهه في كل حياتنا).
هذا تعليق رجل يحكي كيف أن فتوى الدكتور سلمان بجواز الاحتفال بأعياد الميلاد لم تمثل بالنسبة له محفزا للقيام بذلك، ولكنها منحته من الطمأنينة والارتياح أن ما كان يقوم به لم يكن يمثل مخالفة دينية.
السعوديون هم أكثر شعوب العالم الإسلامي ارتباطا بمحددات الجائز وغير الجائز، وهذه مسألة إيجابية تمثل انعكاسا لما يمثله التدين في وجدان السعوديين من قيمة عليا ومؤثرة، ازداد تأثيرها في الفترة التي هيمن فيها الخطاب الصحوي بمختلف تجلياته على تشكيل الوعي العام، وهي حالة لا يمكن أن تتكرر في كثير من المجتمعات، إلا أنه يمكن القول وبكل حياد إن الفقه المحلي في بعض تجلياته قد خذل بعض السعوديين، وأصبح بالنسبة لبعضهم مادة للتخطّي والتجاوز، وليس مادة للاستجابة والإذعان، لماذا؟ لأنه وبكل بساطة لم يغير خطابه بما يتلاءم وحركة الناس وتطورهم، وأصبح التحريم والمنع والزجر هي العنوان الفقهي الأبرز الذي يواجهه السعوديون في كل حياتهم، فلم يكن أمامهم من خيار إلا أن يتركوا بعض الفتاوى وراء ظهورهم، وأن يتجهوا لما يرونه هم مقبولا ولا يمثل خدشا لتدينهم ولا لالتزامهم. والأب الذي يتحدث عن عيد ميلاد ابنته، إنما كان يقوم به قبل أن تأتي فتوى من رجل فقه مستنير تتحدث عن إباحته، لأنه – وببساطة شديدة – لم يكن يرى فيه شيئا، رغم فتاوى التحريم التي انهالت على الاحتفال بعيد الميلاد وشنعت عليه ووصفته بأنه تشبه منكر وباطل ولا يجوز.
الآن، علينا أن نجابه هذا السؤال البسيط بمعادلة مفرطة في البساطة: كم عدد السعوديين من الرجال والنساء والأطفال الذين لا يعرفون حكما فقهيا عن الأغاني سوى أنها محرمة؟ الجواب هو: كلهم . وبالمقابل: كم عدد السعوديين من الرجال والنساء والأطفال الذين يسمعون الأغاني؟ في الواقع ولكي لا يسألني أحد ذلك السؤال المتهافت عن: هل أجريت استطلاعا أو دراسة ميدانية، فالجواب يحوم حول أكثرية ربما.
إذن نحن أمام معادلة، يفترض أن تمثل معضلة لكل مشتغل بالفقه، وهي: لماذا يحظى هذا (الحرام) بكل هذا القبول؟ خاصة أن الأمة لا تجمع على باطل!!
الآن، السعوديون هم أكثر الناس تأثيرا في عالم الغناء العربي.. تأليفا واستماعا واستهلاكا، وتفاعلا عبر القنوات الفضائية والإذاعية، بل وعلى مستوى الفنانين، إلا أن التحريم ما زال هو اللافتة الأبرز التي لا يعرفون غيرها في أمر الغناء، كما أنهم يشاهدون فتاوى محدودة التأثير تحاول أن تجيز ما يحدث في الموسيقى العسكرية، وبالتالي سيدركون أن هذا نوع من البحث عن مخرج لموسيقى لا يمكن الاستغناء عنها أو تحريمها، لأنها ترتبط بشكل من أشكال الأداء الرسمي.
كل ذلك يشير إلى أن التحريم المطلق لما بات ممارسة يومية هو أمر بحاجة إلى إعادة نظر، وإلى موقف علمي وبحثي صادق لا يمكن أن يأتي سوى من فقيه يدرك أن صفة العالم لا يستحقها أصحاب المحفوظات والمتون الجاهزة، بل هي لمن يشتغلون علما وبحثا وإعادة نظر، فالفقه ليس مثل علوم العقائد والتوحيد التي يمثل الثبات والمحورية الواحدة بالنسبة لها صفة دائمة وملازمة، بل هو معارف متغيرة ومتنوعة بحسب تنوع الأزمنة والمجتمعات، والغرض الأبرز من الدرس الفقهي هو إيجاد رؤية دينية متصالحة مع مختلف الأزمنة والتحولات المجتمعية، وليس مجرد كتالوجات يسيرعليها الناس ويحفظونها وعليهم أن يلووا عنق حياتهم اليومية للاستجابة لهذا الحكم أو ذاك.
الذين يؤمنون بجاهزية وثبات المتن الفقهي، والذين اختصروا صورة العالم في صورة الحافظ يعيشون حالة من الالتزام الوهمي، وهو ربما ليس التزاما بالقيمة الدينية العليا التي تتمثل في إقامة الحياة وإدارتها وفق ما لا يخالف شرع الله، وإنما التزام بأحكام ومصفوفات فقهية جاهزة، ينتفضون خوفا ووجلا كلما رأوا من يحاول الاقتراب منها بحثا وتحليلا وإعادة نظر.
الذين يستميتون الآن في الرد على فتوى الشيخ عادل الكلباني بإباحة الغناء، هم في الواقع لم يقدموا أية وجهة نظر فقهية أوعلمية، بل إن ردودهم لا تتخطى كونها نوعا من المساجلات، واتهامه بأنه لم يكتب البحث، والاحتجاج بأن فيما يقوله مخالفة لمن سبقه. وهنا تبرز علة التقليد ومحركها الأبرز المتمثل في اتباع من سبق لأنه هو الذي يمثل الحجة المطلقة، وحجته قادمة من كونه سابقا فقط. ثم إن الواقع لا يعنيهم على الإطلاق، وهو ما تسبب في انصراف الناس عن مختلف الأحكام الفقهية التي لا يجدون لها مكانا في حياتهم. وكأن الفقهاء الحقيقيين الآن هم الناس، بعد أن تخلى عنهم الفقيه لصالح متونه ومحفوظاته، فالممارسة هي أكثر الأدوات ترسيخا للحكم ولمدى قبوله، والذين استماتوا لتحريم جوالات الكاميرا مثلا، يعلمون الآن أن رأيهم لا قيمة له في الواقع، مثلهم كالذي ما زال يرفع صوته بالتحريم (المطلق) للغناء، رغم أنهم يدركون قلة تأثير ما يقولونه الآن على وجدان الناس واختياراتهم.
ما معنى أن يكون لدينا مئة مشتغل بالفقه، كلهم يقرأون نفس الكتب ويحفظون ذات الأفكار ويرددونها في مختلف المنابر، ماذا تبقى هنا من قيمة العلم، وهي قيمة لا تنهض بالحفظ والترديد وإنما على الدرس والبحث وإعادة النظر والتأثر بالواقع، عوضا عن حالة الانفصال الحالية التي يعيشها الفقيه التقليدي. ولذلك فالحجة الأكثر حضورا في كلام المعارضين لقضايا الاختلاط والغناء وغيرها هي: لماذا تتم مخالفة ما عليه أهل العلم، وهو الرأي الذي يكشف الصدمة الحقيقية بأنها ليست مرتبطة بمعارف فقهية ولا برؤية دينية ولكنها بمحفوظات ومتون جاهزة.
الغناء والاختلاط وإهداء الزهور للمرضى والاحتفال بأعياد الميلاد والسفر لبلاد الغرب بلا حاجة والقنوات الفضائية وجوالات الكاميرا وعباءة الكتف والاكتتابات البنكية وغيرها مما لم تجد الذهنية الفقهية التقليدية إلا تحريمه هو الآن جزء من الحياة اليومية للسعوديين، إنما .. أليس هذا مبررا كافيا لأن يتحلق الناس حول الفقهاء المستنيرين الذين يريحونهم من فكرة أن حياتهم كلها تقوم وسط هذا المنكر؟