بعد وقت من الحزن والصمت، قررت عائلة الراحل الدكتور غازي القصيبي الحديث عنه عبر "الوطن" مع بداية العام الثاني لرحيله، لتعلن عن إنشاء متحف يحمل اسمه، ومقره المنامة ويحتوي على عديد من المقتنيات الهامة كالكتب، والشهادات، والأوسمة التقديرية، إضافة إلى جائزة غازي القصيبي الثقافية والتي ستكون متاحة للتنافس عليها من قبل المبدعين الشباب على المستوى المحلي والعربي، وسيكون انطلاقها في الذكرى الثانية لوفاته.

ورصدت "الوطن" في لقائها مع سهيل القصيبي الابن الأكبر للراحل في منزله بالمنامة بالبحرين الكثير من التفاصيل التي لم تظهر للإعلام بعد رحيل الأديب والوزير الذي عرفه العالم العربي كرجل دولة عاصر معترك التنمية وقاد أربع وزارات بجدارة، وكأديب كتب الشعر والرواية والمقالة وأثرى المكتبة العربية بإنتاجه.

يقول سهيل القصيبي حينما استقبل "الوطن" في منزل الراحل: ما زالت والدتي تعيش مرحلة الحزن والصمت، وتحتفظ بجميع حاجياته الصغيرة والكبيرة، كما تركها، أما أحفاده الذين اعتاد أن يقضي معظم وقته معهم وهم فهد وغازي وتاليا أبناء شقيقتي يارا، وكذلك ليث وتميم وسلمى أبنائي، وأيضا سلمان والدانة ابنا شقيقي فارس، مضيفا أن والده ليس من السهل الحديث عنه فهو، الأب الصارم، والوزير الجريء، والصديق الوفي والإنسان العطوف.

ذكرياته مع يارا

ويضيف سهيل "علاقة والدي الخاصة كانت بشقيقتي "يارا" فلم يكن يعاقبها بالضرب للتربية، بل يلبي طلباتها ويستجيب لشفاعاتها، ويستشيرها في بعض الأمور الأسرية. ولديهما أسرار كثيرة، بل كان يفضي إليها بجوانب من الأمور لا يفضيها لنا.

ويتذكر سهيل أن أقصى عقاب وجهه الراحل لابنته كان الخصام، وأن أول خصام لها وهي بعمر الثلاث سنوات حينما رفضت الذهاب إلى الحضانة فخاصمها ثلاثة أيام لتستجيب له وفعلا ذهبت لتكسب رضاه رغم صغر سنها.

مع حفيدته سلمى

وتلتقط أطراف الحديث حفيدته سلمى التي أفاضت في الحديث عن تشجيع جدها لها في مجال القراءة والكتابة، وتقول: وكان رحمه الله حين أكتب قصة يبادر ويشتريها مني فورا ويدفع 10 ريالات لكل قصة، وأعجبته إحدى القصص فاشتراها بـ100 ريال.

وتتذكر حفيدته سلمى مناداته لها بلقبين: "مس مودي" (الآنسة المزاجية)، واللقب الثاني "الأميرة" لأنها تحب اللعب بالأميرات.

وتقول: للتو بدأت أعرف أن جدي رحمه الله مشهور وكثيرون يتعجبون حينما يعرفون أنني حفيدة غازي بينهم معلماتي وآباء زميلاتي.

متسامح مع الأحفاد

ويرى سهيل أن أباه كان في أسلوبه التربوي صارما وكثيرا ما طالبنا بالتنفيذ دون نقاش أو الاستماع إلى وجهة نظر الأبناء لكنه مع الأحفاد كان أكثر تسامحا، وأضاف "يعاقبنا نحن كأبناء حين تنخفض الدرجات في المدرسة أو حين يحدث من أحدنا تجاوز سلوكي، لكنه في نفس الوقت يترك لنا مساحة من الحرية والخصوصية واتخاذ القرار".

ويستشعر سهيل شهرة والده التي انعكست عليهم إيجابيا كأبناء، وإن لم تخل من بعض الأمور المزعجة كتكرار طلبات الشفاعات في أمور لا يستطيعون عليها.

ويرى سهيل أن أكثر ما كان يزعجهم غياب والدهم الطويل بحكم أسفار العمل واجتماعاته المتكررة، ولكنه يتذكر أن ما يصبرهم هو الهدايا التشجيعية التي اعتاد والدهم إحضارها لهم ومن ذلك "مجموعة أفلام "بروسلي" الشهيرة، التي كان يحضرها والدي من أميركا وأفرح بها كثيرا.

رومانسية غازي الحقيقية

وحول الحياة الزوجية لوالده قال سهيل: كثير يظن أن حياة والدي مع والدتي كلها رومانسية وأشعار، لكن بالواقع كانت حياة زوجية طبيعية، حتى إن عددا من القصائد لم تقرأها يوما، وكان يكتب بعض القصائد لأمي ويترجم بعضها لتفهم معانيها بالشكل الذي كتبه، ويلخص سهيل حياة والده في كلمتين هما القناعة والارتياح.

قصاصات وسجلات ورقية

وحول مؤلفاته الأخيرة يقول سهيل: بعد عودة والدي من المرحلة العلاجية الأولى تفرغ لإنهاء مجموعة من الكتب ومنها "الوزير المرافق" الذي استخرج أوراقه من الخزائن المكتبية الخاصة به، وأرسله إلى المطبعة مباشرة، ونشر بعد وفاته، وكذلك رواية الزهايمر التي أنهاها وهو على فراش المرض، ومجموعة شعرية أخرى لم تطبع بعد، يصل عدد قصائدها إلى 30 قصيدة.

وأضاف أنه لم يكتب الجزء الخاص بتجربته مع وزارة العمل، مشيرا إلى معاناة الراحل في هذه الوزارة حيث كانت البطالة تشغل قلبه وتفكيره، والعمل كان كبيرا ومرهقا.

اللحظات الأخيرة والطبيب الصلب

وحول مرضه واللحظات الأخيرة، يقول سهيل شعر والدي بآلام مبرحة في المعدة وغادر إلى أميركا للعلاج وأخبره الأطباء بإصابته بمرض "السرطان" بل إن أحد الأطباء في المستشفى أخبر والدي أنه لن يعيش سوى ستة أشهر، ورغم أن النفس من المؤلم أن تتلقى خبرا كهذا إلا أن والدي تعامل معه بصبر وثبات واطمئنان طوال مرضه، ومنوها إلى أن والدته كانت أكثر إنسانة تقف مع والده في لحظات مرضه وحتى وفاته، فكانت المرافق الخاص والرسمي والملازم.

اهتمام بالتفاصيل

ويكمل الحديث العم عبدالحميد (77 سنة) من أسوان والذي لازم الفقيد من عام 1984 ميلادي قائلا: كان الراحل بمثابة "كبير السفراء" وهو سخي ووفي جدا ويحب إرسال الهدايا باستمرار لأصدقائه، مستشهدا بصديق قديم للراحل في منطقة "الحد" بالبحرين كان يدرس معه في المرحلة الابتدائية أي قبل ما يزيد على 60 عاما واعتاد الراحل أن يرسل له عيدية سنوية ويكتب عليها إلى "صديقي العزيز أبو عبدالله كل عام وأنت بخير".

ولا ينسى عبدالحميد عبارة "شكرا تعبناك يا عبدالحميد" بعد كل مناسبة لينتهي التعب.

ويشير عبدالحميد إلى أن الراحل قلبه حنون حتى على الحيوانات فذات مرة دخلت "يمامة" إلى المنزل بالخطأ، فحذر من إيذائها وقال لعل لديها أبناء ينتظرونها الآن.

ويضيف "كنت أول القراء له، أقرأ القصيدة قبل أن أسلمها إلى البريد، وقبل إرسالها إلى المطابع للنشر، وحينما كان يسخر من صدام في حرب الكويت كنت أول من يطلع على ما يكتب، وأشار إلى أن الراحل يهتم بالتفاصيل الإنسانية، ومن ذلك حين ما يكون لديه ضيوف يتابع عشاء الخدم والسائقين بنفسه.

البساطة والقناعة

وأكد أن الراحل كان بسيطا وقنوعا في مظهره وملبسه وعاداته وكان يحرص على شرب شاي الحليب في حديقة المنزل أو المكتب ويميل للخضراوات والسلطة.

ولا ينسى العم عبدالحميد موقفه الإنساني حين عالجه الراحل بتركيب مفصل في الفخذ في مستشفى التخصصي بالرياض، وأرسل له باقة من الورد رغم أنه كان مسافرا إلى الهند، ليوصل إليه اهتمامه رغم انشغاله.

"الوطن" زارت مكتب السفير الوزير الشاعر الأديب، وتأملت أنواع الأقلام التي كان يستخدمها، فأغلبها ماركة مونتوبلان الشهيرة، ورصدت آخر الكتب التي كان يقرأها فما زالت على طاولة بجانب مقعده الذي كان يقرأ به، وما زالت وسادة الظهر في مكانها على المقعد وكأنها تحمل ثنايا جلوسه.

وسيارته التي تقبع في خدرها في كراج المنزل، أما المنزل والذي يغلب عليه الطابع الغربي رغم اتساع أفنيته فإن ألوانه تميل إلى البياض والذهبي في الغالب. وتستقبلك في مقدمة المنزل صورة لوحة كبيرة من رسم أحد الفنانين له هو وزوجته كإعلان عن ملكية المنزل لهما، ويتوسط المنزل غرفة التلفزيون ومقعد جلدي أسود له ولزوجته أمام الشاشة، في غرفة تطل غالبيتها على الحديقة والمسبح الخارجي.

هنا عاش الأديب الراحل، واستنطق شعره كل ما حوله، وأمعن الفكر في قراراته الوزارية، واستلهم من الهدوء طموحه وانفعاله.

ودعنا سهيل، وودعنا العم عبدالحميد بدموعه التي تذكرت كبير سفرائه كما كان يراه.