عرفت لحظة الوعي الأولى على الفتوى، عندما كان فضيلة الشيخ محمد بن حسن الدريعي يتحفنا بأنواره على الدرب على الأثير مرة واحدة في الأسبوع ، وبزعمي أنه كان شافياً كافياً لمجتمع لم يتعود آنذاك فانتازيا الأسئلة. تبرهن تلك المرحلة الجميلة أن هذا الدين العظيم هو دين الفطرة، وبالفطرة ذاتها كان الناس يتلمسون حاجاتهم ويتدبرون أمورهم الفقهية دون الحاجة إلى هذه الكثافة المدهشة من عقد الأسئلة. خذ مثلاً: من هي الأم المرضعة اليوم في عمر الثلاثين أو الأربعين؟ هي تلك التي ستفتح صدرها لترضع زميل عمل أو سائق عائلة كي تحلل الخلوة أو ترفع حرج الاختلاط ، ومن ثم يضج المجتمع بذيول هذه الفتوى المجلجلة. ما هو العقل العاقل الذي يسأل عن جواز دخوله بقالة تبيع على رفوفها صحفاً ومجلات هي بزعمه تحارب الله ورسوله. وكيف وصل الخيال بالسائل إلى تفصيل هذه الحرب المزعومة؟ ما هي المبررات التي تدفع تاجراً لأن يسأل عن إخراج زكاته التي حانت مواعيدها وهو يركب الطائرة في رحلة عمل طويلة  ؟ وهل يحتاج سؤاله إلى فتوى؟ وبالطبع لابد من ملء الفراغ. إما الفراغ الفكري في اهتمامات الناس، أو الفراغان الفضائي والإلكتروني اللذين لابد من حشوهما بآلاف الأسئلة، وضماناً لعدم التكرار صارت الأسئلة ابتكاراً وفي حالات كثيرة لا علاقة لها بواقع الناس وحياتهم اليومية. وفي حين أن هذا الدين العظيم يدعو فقط إلى أن تنفر طائفة في قوله تعالى (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ) فقد أصبح العلم الشرعي للأسف الشديد ساحة مفتوحة لاجتهادات الفتوى التي تحولت إلى وسيلة إثارة إعلامية. وتثبت الإحصاءات أن أكثر من 80% من خريجي الدكتوراه في جامعاتنا المحلية هم من اختصاصي العلم الشرعي، وتتوزع النسبة الباقية بين عشرات التخصصات الأخرى المختلفة. لم يعد الأمر طائفة بل صارت الأغلبية. وإذا كان الحال يقضي تخصيص برنامج للظهور الإعلامي لكل فرد من هؤلاء ، فكم هي الساعات والقنوات والمواقع الإلكترونية التي نحتاجها لملء الفراغ؟ وكم هي الأسئلة المبتكرة في هذا الحشد الهائل حتى نضمن ألا تتكرر الأسئلة؟