مازالت الأصداء تتوالى بين مؤيد ومعارض على الخبر الذي نشرته الوطن بعنوان: "التربية تحسم جدل تسجيل الطلاب في مدارس البنات: تعميم يؤكد الموافقة ويشترط الفصل بين الذكور والإناث في قاعات مستقلة"، والذي جاء فيه بأن نائبة وزير التربية والتعليم لتعليم البنات د. نورة الفايز قد أبلغت بعض مدارس البنات الأهلية بقرار الوزارة السماح باستقبال الطلبة الذكور في الصفوف الدنيا فيها بشرط فصلهن عن الإناث.
لست مع أو ضد هذا القرار، وإنما ما يعنيني هو كيف تم الوصول إليه وهذا "الحسم"؟ وما الذي سيترتب عليه اجتماعياً؟
فحين أتابع القرارات المتعلقة بتغييرات جذرية لما ألفه الناس في المجتمعات التي تتبنى مبادئ التعددية والمشاركة الشعبية، ألاحظ بأن الحكومات تمضي وقتاً طويلا في شرح الأسباب التي تجعل مثل هذه التغييرات ضرورية، وكيف سيكون الوضع مستقبلاً بعد تطبيقها، وتحاول إقناعهم بالإيجابيات مع الاعتراف بأن هناك قصوراً وسلبيات، وتكون واضحة بشأن الدراسات العلمية التي أجريت لإثبات جدوى التغيير المرتقب، وتُفتح المنابر المختلفة للمؤيدين والمعارضين، وقد يستغرق الأمر من سنتين إلى خمس سنوات حتى يطبق الأمر بشكل كامل.
وفي بعض المواضيع الشائكة، فإنها تضطر إلى طرح الأمر إلى استفتاء شعبي عام يكون غالباً مقياساً لنجاح أو فشل حملة الدعاية المسبقة، وقد تعاد الكرة عدة مرات عبر سنوات على أمل بأن يغير الناخب رأيه.
في العالم العربي فإن الوضع مختلف، فهناك دراسات تُجرى حسب ما يعلن عنه إلا أن أحداً لا يعلم من أجراها، ولا ما هي العينة التي أُجريت عليها، ولا ما هي نتائجها وتوصياتها. وبعد هذه الدراسات غير المعلنة، يتم إصدار قرار يطبق من وقت صدوره. وردة الفعل الطبيعية على قرار كهذا سيكون فيها الكثير من التشكيك والرفض، لأن الناس بطبعها تخاف من الجديد والمجهول.
والآن لننظر في قضية تأنيث التعليم في الصفوف الدنيا، فلو سرنا مع موكب المؤيدين، لوجدنا أن الحجة تكمن في أن الطفل ما بين (6- 9 سنوات) بحاجة إلى الحنان والرعاية من المعلمة، وسبب جوهري آخر هو الخوف على الصغار من جرائم الاعتداء عليهم من قبل بعض من خانوا شرف مهنة التعليم وقبله دينهم وإنسانيتهم، أو حتى من بعض الزملاء الأكبر سناً، وهي ليست حجة ضعيفة، ومن يقرأ رواية (شارع العطايف) لعبدالله بن بخيت سيعرف أن هذه الجريمة في حق الطفل أو اليافع هي أسوأ من القتل.
وسيؤكد هؤلاء أنه لا يوجد مانع شرعي صريح يمنع ذلك، وبالتالي فذريعة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح يمكن أن ينظر لها من هذه الزاوية أيضاً.
نأتي إلى الجانب الآخر الرافض لهذا الاختلاط، ومبرراته إما شرعية استناداً على أن سن السابعة هو سن التمييز والعاشرة هو سن التكليف بالصلاة، وبالتالي فلا يمكن مقارنة طفل السابعة بأطفال الحضانة، وبالتالي فحكمه من حكم الاختلاط الذي تعتقد نسبة كبيرة من الناس الذين تلقوا تعليمهم الديني في بلادنا بأنه محرم شرعاً وممنوع وفق تنظيمات الدولة الإدارية منذ تأسيسها. فقانونياً وحسب المادة 155 من السياسة العامة للتعليم، فإنه يمنع الاختلاط في التعليم ما عدا دور الحضانة، فهل عُدّلت المادة؟ كيف ومتى؟ أم أن كون الأطفال مفصولين في فصول دراسية مختلفة يعني عدم وجود الاختلاط؟ ومن زاوية اجتماعية بحتة، فنحن في مجتمع يحث على فصل الذكور عن الإناث ومنذ الطفولة لأسباب دينية أو للعادات والتقاليد التي ترى أنه من الأفضل أن يتربى كل جنس مع أترابه من الجنس نفسه منعاً لاختلاط الأدوار وتأثر الشخصية، خاصة حين يغلب جنس الجنس الآخر في العدد. فالنعومة في الرجال مسبة والنساء منقبة، والخشونة في الذكور فطرة وفي الإناث تكلف ممقوت، ومازلت أذكر بأننا كنا نسمي البنت التي تلعب مع الأولاد أكثر من البنات "حامد ولد" مع أنه يكون قدرها أحيانا أنها ولدت وسط أربعة ذكور! وبالتالي وهذه حال ثقافة المجتمع، فما الفائدة التي ستُجنى من هذه العملية التي تعاكس طبيعته؟ وبما أن القرار مقصور على بضع مدارس أهلية، فما الذي سيحصل بعد السنة الثالثة الابتدائية حين يذهب الطفل مضطراً لمدارس الأولاد؟ حينها سيكون عليه أن يتعامل مع بيئة مختلفة تماماً وهو في سن العاشرة مع أقران ألفوها قبله في سن السادسة، وبالتالي سيصبح الحلقة الأضعف وأكثر عرضة للأذى. وهل تستطيع المعلمة الشابة ضبط شقاوة الأولاد كما تضبط شقاوة البنات في هذه السن؟ هل هن مؤهلات ومدربات للقيام بذلك؟ وماذا لو تعرضت طفلة لأذى من أحد هؤلاء الزملاء الجدد؟
سيقول البعض إنهم صغار، ولكن هزت بريطانيا مؤخراً جريمة اغتصاب قام بها طفلان في العاشرة ضد طفلة في الثامنة، والقضية الآن في أروقة القضاء، هذا ناهيك عن خشونة لعب الأولاد مقارنة بالبنات.
إذن فالقضية ليست سهلة كما يمكن أن نعتقد للوهلة الأولى، وتحتاج دراسات متأنية، وتأكيدات من المدارس بالكيفية التي ستضمن حقوق ومصالح كافة الأطراف.
فالحوار الوطني الحقيقي، والقادر على صنع فرق في بلد ما، هو ذلك الذي يجري بين ومع الناس العاديين، بحيث يشعر الجميع بأنهم شركاء في مستقبل هذا الوطن، لا ذلك الذي يجري فقط بين النخبة المترفة فكرياً.. وخلف الأبواب الموصدة.