الفتوى – في أبسط صورها وأغراضها – بيان حكم الشرع في ما يسأل عنه الناس بهدف إرشادهم إلى ما تصح به عباداتهم ومعاملاتهم .. ولم يكن الناس، في الماضي القريب، يكثرون من الاستفتاء نظرا لقلة المتغيرات في حياتهم، فهم يتلقون فروض العين منذ الصغر ويزاولون معاملاتهم وفق نظم وأعراف ثابتة لا يعتريها التغير إلا في النادر .. ولهذا لم تكن للفتوى سوق، ولم يكن لها تجار "يتلقون الركبان" بل كان العالم يتورع عن الإفتاء، ليس من باب كتمان العلم لكن من باب الورع، فإذا سئل عن مسألة أحالها إلى عالم آخر.
هذه الصورة "غير المتحركة" للفتوى كانت تناسب أحوال الناس "الساكنة" لكنها تغيرت وتسارعت وتيرتها وصاحبها كل ما يصاحب التغير والتسارع .. وفي السنوات الأخيرة – مع انفجار وسائل الاتصال – تحولت الفتوى إلى "صناعة" تقوم عليها خطوط إنتاج من قنوات ومواقع، ومفتين ومقدمي برامج .. وككل الصناعات والنشاطات الإنسانية دخلتها مؤسسات "ربحية" هدفها جمع المال وتكثير العملاء وترغيبهم في "المنتجات" بجمال التغليف وحسن العرض و مؤسسات "غير ربحية"  تهدف إلى خدمة المجتمع ورعاية مصالحه. وكلا النوعين من المؤسسات  يعمل في سوق رائجة بين جمهور يتزايد – يوماً بعد يوم – لتغير أحواله وتبدل مواقفه وتنوع المعروض عليه من "الصناعات" الفخمة التي تأخذ "بالعزائم" إلى الصناعات "التايوانية" التي وجدت في "مخزن الرخص" ما يلبي حاجة الجماهير الراغبة في التزين بالفتوى والتجمل بآخر موديلات بيوت الأزياء و التلهي بمفاجآت هوليوود.
وسوق الفتوى اليوم يمكن أن يكون "خامة" صالحة لدراسات ميدانية تفحص ثقافة المجتمع وتوجه اهتماماته والقضايا التي تشغل شريحة كبيرة من أفراده .. وهل البحث عن الفتوى مؤشر إلى نقص في الثقافة الدينية أم هو رغبة في المواءمة بين التمسك بالشرع والعيش في العصر بكل متطلباته ومتغيراته؟ .. وإذا كانت الفتوى يمكن أن تعكس "حال" الثقافة في المجتمع فهي أيضاً يمكن أن تكون مرآة لمفهوم التدين والدين وكيف يتعامل معه بعض مراكز الاتصال ووسائل الإعلام .. وكيف يتم استثماره!.
اطلعت، الأسبوع الماضي، في موقع "الفقه الإسلامي" على دراسة حول الفتوى في الإعلام العربي فحصت محتوى  244 حلقة من برامج الفتاوى على مدى ثلاثة أشهر (محرم – صفر – ربيع الأول 1431هـ) في إحدى عشرة قناة، واستطلعت رأي 4571 شخصاً (2332 ذكورا و 2239 إناثا) في سبع عشرة دولة منها: السعودية – مصر – قطر – ليبيا – المغرب – النمسا – بريطانيا – ألمانيا – فرنسا .. و سجلت الدراسة بعض الملاحظات التي منها: عدم موافقة الجواب للسؤال وافتقار الجواب للتفصيل المؤثر في الحكم وعدم بيان الحكم الشرعي مع إغفال أمور أساسية في الفتوى.. وخلصت إلى ضرورة مراعاة المفتين التروي والدقة وفهم السؤال وتحديد مناط الحكم وبيان التفصيل المؤثر في الحكم وما لا ينبغي تركه أو توضيحه في الفتوى.
وإذا تأملنا هذه الملاحظات التي خرجت بها الدراسة وجدنا أنها ترجع إلى المشاركين في إنتاج عملية "الفتوى" من السائل ومقدم البرنامج والمفتي .. فهذا "المثلث" هو المسؤول عن جودة أو رداءة الفتوى .. والمتابعة والملاحظة الشخصية تبين أن بعض المقدمين لا يؤدون دورهم بشكل مهني هدفه "خدمة" المشاهد أو السامع أو القارئ .. فأحياناً يكون السؤال غير واضح فلا يقوم المقدم بمساعدة السائل على إيصال ما يريد قوله ومعاونته على تحديد ما يريد وهذا عنصر مهم لإتمام "عملية الاتصال" بالشكل المطلوب، كما يتوجب على المقدم أن يعاون "المفتي" على فهم السؤال بصورة محددة إذا ظهر من إجابته أنه لم يسمع السؤال بشكل واضح أو لم يفهم مناط السؤال .. وإذا كانت إجابة "المفتي" مجانبة للسؤال فعلى معد البرنامج أن يراجعه ويذكره بأنه لم يجب السائل.. وإذا كان "المفتي" لا يستطيع أن يقدم الإجابة الكافية الواضحة، لأي سبب من الأسباب، فعلى مقدم البرنامج الذي يحترم عقول مشاهديه وسامعيه أن يقول صراحة إن الإجابة التفصيلية غير ممكنة لأنها تدخل في باب المختلف عليه أو أنها مما لا يحسن عرضه على عامة الناس.
وإذا كان "المقدم" غير المتقن لعمله يساهم في ضعف برنامج الإفتاء فإن "المفتين" المتعجلين وقليلي العلم والجاهلين بأحوال الناس و"المؤدلجين" يوجهون البرامج إلى غير ما يخدم المجتمع.. ويلاحظ أن بعض المفتين في القنوات التلفزيونية والإذاعية لا يراعون أحوال المستفتين من حيث ظروف المكان والزمان والمذهب السائد في بلدانهم والأنظمة والقوانين التي تحكم حياتهم، إلى جانب الخلط بين الوعظ والحكم الشرعي.. فبعض المفتين يطرح عليه سؤال فقهي محدد يطلب صاحبه حكم الشرع فينصرف المفتي إلى موعظة عامة وإذا فرغ من "الموعظة" لا يعطي إجابة محددة. وللأسف فإن "هيبة" بعض المفتين تلقي بظلالها على مقدم البرنامج فلا يسأل: أين الحكم المسؤول عنه؟ بل يكتفي بالقول – نفع الله بعلمكم – وهذه دعوة طيبة لكنها لا تقدم إجابة للسائل وتقصر دون وظيفة "الخدمة" التي من أجلها تبث البرامج.. وهناك من تغيب عنه ثمرات الاختلاف ويسيطر عليه "الالتزام" المذهبي الذي لا يرى الحق إلا في ما يراه هو، فحين يسأل عن مسائل "خلافية" يبدأ بنعت المخالفين بالزيغ ومجانبة الحق والبعد عن الصواب، بل قد يدفعه الحماس إلى وصفهم بالضلال والانحراف، فيفقد بذلك أول مداخل "التأثير والإقناع" اللذين من شروطهما اكتساب احترام المشاهد أو المستمع وتقدير عقله وثقافته والاعتراف بأصالة الاختلاف في أفهام الناس وتباين قدراتهم على الاستيعاب وتأثير البيئة عليهم. وإذا كان مقدم البرنامج والمفتي هما الركنين الأساسيين في نجاح أو فشل البرامج واعتبارهما وسيلة للارتقاء بثقافة الناس وتوجيه اهتماماتهم فإن السائل له دور مهم إذا قدرنا أن تلبية طلبه شرط أساسي في "دورة" الاتصال.. والملاحظ أن غالبية المتصلين يسألون عن بدهيات الأحكام الملازمة لحياة المسلم مما يعني "فشل" بعض مناهج تدريس المواد الدينية في المدارس والمعاهد والجامعات.. وهنا تأتي المفارقة في مجتمعنا، فعلى الرغم من "كم" المواد الدينية التي تدرس في المدارس إلا أن "حصيلة" الفقه لدى عامة الناس متدنية جداً.. فأين الخلل؟