من غيّر العالم هم المفكرون. ونعني هنا بـ"المفكرين" الذين يغوصون بأفكارهم في أعماق القضايا، ويحاول طرح التساؤلات والبحث عن إجاباتها بالعقل، أي إنهم أولئك الذين استخدموا عقولهم لإنتاج أفكار جيدة أو جديدة كان لها أهم الأثر في حياة البشرية. وبحسب (ديكارت) فإن العقل أحسن الأشياء توزيعاً، حيث وزِّع بين الناس بالتساوي، إذ يعتقد كل فرد أن ما أعطي منه هو الكفاية، وبالتالي فإن "اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نواجه أفكارنا في طرق مختلفة، ولا ينظر كل منا في نفس ما ينظر فيه الآخر لأنه لا يكفي أن يكون للمرء عقل، بل المهم هو أن يحسن استخدامه".

هنا يكمن الفرق بين المفكّر وغير المفكّر، فالمفكرون يملكون غالباً زمام المبادرة إلى التفكير من أجل التغيير عن الواقع السائد إلى واقع أفضل، وبالتالي فمن أهمِّ صفاتهم أنهم مسكونون بالفكر والتفكير، وهذا ما يفرض عليهم أن يكونوا حاملين لقضايا جوهرية تخص ماضي وحاضر ومستقبل مجتمعاتهم وأوطانهم وثقافتهم الإنسانية بشكل عام. ولكنّ الذين يسيرون في السياقات التقليدية للثقافة، لا يكتفي كثير منهم باتباع هذه التقليدية على الصعيد الشخصي، في عدم تميّزهم عن السائد أو عدم قدرتهم على قراءة الواقع الإنساني من خلال التفكير بأدوات جديدة ومعاصرة، وخاصة أن هذا الواقع يحتاج باستمرار إلى تجديد الأفكار، وإلى توجّه حقيقي نحو التغيير والتطوير. إذن، هناك من يسهم في تقويض مساحات هذا الواقع في بعض المجتمعات، محاولاً جعله أسوأ، بالسعي إلى فرض الفكرة الواحدة، والتي غالباً لا تنطلق من القناعة بوجود أفكار أخرى متعددة ومختلفة؛ مما يعني الانطلاق من رفض التغيير أولاً ورفض حق الآخرين بالتعبير تالياً، وهنا تحدث المشكلة المتعلقة بالتكفير والتكفيريين. فالتكفير إقصاء ومصادرة للحق في التعبير والاختلاف، يبدأ بالتصنيف قبل الإلغاء، معتمداً على إخراج الإنسان من دائرته الإنسانية قبل إخراجه من دائرته الدينية أو الاجتماعية، ولا يخرج التكفير عن كونه تفتيشاً في الضمائر والنيات بهدف تصفية الفكر الخصم الذي يجسّده المفكِّر. وبما أن ذلك دليل خلل ثقافي كبير، فإن المعالجة تمكن في التعمق بالجذور، من خلال نقد منطلقات الخطاب، ونبش التراكمات الماضية، لفحص مدى ملاءمة "الحقيقة" للعقل، ومن الشائع أن التكفير لا يقبل الحوار أو النقض فهو قرار نهائي ينتهي لحظة خروج الكلمات كفتاوى تكفيرية بحق المفكرين، لا تقدّم على أنها قابلة للفحص والأخذ والرد، بل تقدم على أساس أنها حقيقة مطلقة ونهائية وهنا مكمن الخطر حيث يخضع النصّ الديني أحيانا للتأويل التعسفي. وبذلك يأتي اعتماد معتنقي الأفكار الدينية المتطرفة على توظيف نصوص الدين، وحوادث التاريخ، ومحتوى التراث، لقمع الفكر الآخر كمحاولة لاستمرار إحكام السيطرة أيديولوجياً على المجتمعات بحاضرها ومستقبلها. فمبادئ التكفير تتكئ على فتوى دينية يصدرها أشخاص يتعاطون مع العلوم الدينية، فيقومون بإنتاج أو إعادة إنتاج الفتاوى المتشددة.

وتشير الأوضاع الاجتماعية والسياسة في أرجاء العالم الإسلامي إلى حجم الخطر الذي يتهددنا من خلال "التكفير"، إذ غالباً ما ينمو التكفير في الأرض المخصّبة بالجهل، حيث تتم السيطرة المسبقة، من خلال اتجاهات قوية لفرض شكل معين من (التدين) حتى إن الشخص المتدين لا ينطلق من كون تدينه قضية شخصية تخصه، بل من كونه يجب أن يفرضها على غيره، اعتقاداً منه أنه يملك الحق في ذلك. وبالتالي لا يلبث هذا التدين لدى البعض أن يتحول إلى أداة خطيرة أيضاً، بتحوله - في الواقع - إلى ممارسة أيديولوجية لا دينية، ويمكننا البحث في تاريخ المئة سنة الماضية لنستنبط كيف ازداد التكفير قوة، وبالتالي ظهور حركات "الإسلام السياسي" وصعودها السريع لتلقى رواجاً في مجتمعات كانت غارقة في الجهل والفقر، حيث شهدت ثقافتنا العربية أثر التكفير على تقدم الفكر بشكل يكاد لا يسمح للنخب الثقافية في مجتمعاتها بأن تفكر بصوت عال، فما مورس بحق المفكرين العرب خلال القرن الماضي ازدادت حدته، ففي البدايات وجدنا قاعات المحاكم ملجأً للخصام والاحتكام، وفي الأخير وجدنا الرصاص طريقة سهلة وفاعلة لتنفيذ الأحكام حتى نيابة عن الدولة أحياناً، وكل ذلك باسم الدين والتدين.