لا يمكن لك في لحظة من اللحظات في حال ابتهاجك لطرح فكرة جديدة إلا وتكتشف الكثير من الأفكار المعارضة خاصة إذا ما كانت تلك الفكرة مخالفة للسياق العام الذي تعوده المجتمع حتى لو كانت فكرة لها أصل تراثي معتبر عند الأقدمين. فكّر مرة أن تأتي بفكرة ثورية وغريبة على المجتمع، ولتكن مخالفة لكل ما اعتاده الآخرون.
جرب مثلاً أن تنتقد رجلاً معتبراً في التاريخ العربي ستجد أن التراث يمتلك سلطة فوق ما تتوقع.
طبعاً هذا على المستوى البسيط أما على المستوى الأعمق وهو طرح القضايا الكبرى فالأمر يزداد إشكالية أكثر ويصبح التراث يمتلك سلطة أكبر حتى ليصبح التخلص من الأفكار ذات الاعتبار التراثي والوثوقية المطلقة أمرا في غاية الصعوبة إن لم يكن من المستحيلات في ظل سياق تاريخي معين. قد يستلزم ذلك ذهاب الكثير من التضحيات الفكرية والإنسانية لإنجاح المشروع.
إنه في كل طرح فكري أو ثقافي أو حتى اجتماعي أو قضايا علمية وغير علمية يقف التراث أمام المشروع الذي يراد تبيئته في الواقع العربي عموماً حتى ليصبح المشروع محل تداول وجدل فكري واجتماعي لا يقف عند حد معين لكون هذا المشروع يقف حائلا دون امتداد التراث في نفوس أبناء المجتمع الواحد أو يقف معاضداً لذلك التراث لكون هذا المشروع له أصل تراثي معمق في الوجدان الجمعي لدى أبناء العرب والمسلمين.
كانت المشاريع العربية بلا استثناء: الفكرية والسياسية والاجتماعية على حد سواء تضع التراث العربي تحت المحك فإما القبول المطلق أو الرفض المطلق أو التوفيق ما بين المعاصرة والتراث، وكل هذه المشاريع ومنذ أيام محاولات النهضة لا تزال على أرض الواقع تصارع بعضها البعض وتحاول أن تنفي بعضها البعض. لم يأتِ مشروع عربي حتى الآن يفكر في سياق مختلف خارج سياق المشاريع التي ذكرناها.
رجل الفكر التقليدي يضع التراث هو الحكم أولاً وأخيراً على كل مشروع عربي إصلاحي نهضوي. رجل التحديث يضع التراث في الخلف ولا يحتكم إليه مطلقاً في تصوره لمشروع النهضة الذي يحاوله بل هو يضع العصر وتطوره الحكم في تصوره المشروع خاصة فيما أنتجه الفكر الغربي أو الشرقي الحديث، وما بين هذا وذاك يقف البعض موقفا توفيقياً ويحاول الموازنة بين الحديث والقديم في توليفة خاصة من خلال التأويل أو استحداث أفكار جديدة من داخل التراث ذاته.
المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي يرى أن هناك خللاً في التفكير العربي بين هذه الرؤى المختلفة فهو يعتبر أنها تخلو من فهم السياق التاريخي العربي وإشكالياته الفكرية.
والحديث عن التراث يستلزم الحديث عن المعاصرة ومدى علاقة الأول بالثانية ومدى تأثير كليهما على بعض، وهل المعاصرة أو "الحداثة" هي في جوهرها قطيعة تامة مع التراث بحيث يلغي أحدهما الآخر..؟ أم إن القضية لا تعدو نوعاً من التناقض غير المقبول أو هو نوع من الجدل بين تيارين يمكن المزاوجة بينهما..؟ وما مدى قبول مثل هذه المزاوجة..؟
ثنائية المعاصرة والتراث، أو "الحداثة" و"التقليد" هي ثنائية متلازمة ولا يمكن فصلهما عن بعضهما ذلك أن التراث والتقليد يستلزم التفكير في نفي المعاصرة أو الحداثة كما يستلزم من وجود المعاصرة نفي التراث، بل حتى محاولات التوفيق بينهما لا بد وأن تطرح فكرة النفي بين الفكرتين ثم تحاول ردم الهوة بينهما وهي هوة في نظر البعض متنافرة جدا لكنها هوّة في نظر البعض الآخر غير بعيدة الالتقاء وبقليل من التعديلات هنا وهناك ومد الجسور يمكن أن يلتقي طرفا النقيض.
لكن القضية لا تقاس بهذه الطريقة أو تلك وإنما تقاس بالنظر إلى المكونات والبنى الثقافية بين التراث من جهة والحداثة من جهة أخرى. يرتكز التراث على القضايا الفكرية التي نتجت في الماضي من إشكاليات فكرية وأيديولوجية وسياسية وغيرها في حين نتجت الحداثة على ذهنية تجاوز تلك البنى الفكرية الماضية والتجاوز لا يعني رفض الماضي بمطلقه والقطيعة معه وإنما تعني محاولة تعدي الوقوف في الماضي بمعنى أن هذا الماضي لا يصبح إلا مكوناً ثقافياً للحداثة لكنه ليس مكونا مهيمنا بقدر ما هو مكون يعطي الحداثة أحقية تجاوزه والبناء الفكري على أساسات بناء آخر وليس بناء مستقلاً حتى ولو ادعت الحداثة العربية ذلك.
إن رموز الحداثة العربية حينما أرادوا بناء نظرياتهم المعاصرة لم يستطيعوا إلا العودة إلى التراث لنبش الكثير من القضايا الفكرية بحيث تصبح الحداثة ذات جذور فكرية تراثية، ولم يكن بناءً مستقلاً يقطع بالكلية مع الماضي أو التراث. أدونيس وهو عرّاب الحداثة العربية عاد إلى التراث كي يبني مفهومه للحداثة من خلال ثنائية الثابت والمتحول في التراث العربي باعتبار التقليدي ثابت والتجديد متحول حتى داخل التراث نفسه، فهل كانت الحداثة رجعية كما يقول د.عبدالله الغذامي عند بعض رموز الحداثة؟
إن المسألة ليست بهذا الشكل أيضاً إذ إن كل مجتمع وثقافة يمتلكان تراثهما الخاص ولا يمكن القطيعة الكلية مع هذا التراث بجملته، وإنما المسألة تعود إلى التوجه والنزعة الفكرية التي تحكم الذهنية التي تريد القطيعة مع التراث.
النزعة الإنسانية في الفكر الأوروبي الحديث والذي قاد إلى التنوير والحداثة الأوروبية المعاصرة كانت قطيعة مع نزعة سلطوية بعينها وليس مع التراث بكامله بمعنى إحلال مفهوم للتراث والإنسان خلال المفهوم القروسطوي المعروف آنذاك.
إذاً.. وبناءً على هذا الذي ذكرناه لا يصبح مفهوم القطيعة مع التراث مفهوماً عاماً يلغي التراث كما يظن الخطاب التقليدي وإنما هو قطيعة مع نوع التصور الفكري للتراث بحيث يصبح التراث سلطـة معرفية أمام ذهنية النقد والتفكير والتطـور سـواء من خلال التراث أو تجاوز هذا التراث إلى المعـاصـرة والحداثة، لذلك فمحاولة جر التراث إلى منطقة الأيديولوجيا التقليدية بدعوى الأصالة هي دعاوى تحاول الهيمنة على التراث من تعميمه كاملاً بأيدي الجميع حتى يصبح التراث دولةً بين التقليدين عن غيرهم، وحتى ينزعوا كل شرعية فكرية خارجة عن سلطتهم التقليدية للمحافظة على الهيمنة الثقافية.