الحرب صراع إرادات متناحرة، يستخدم فيها أقسى وأعنف طرق ووسائل وأدوات القتل والتدمير، لكسر إرادة الممانعة عند طرف ممانع، وفرض الشروط عليه. وهي الحالة الوحيدة التي يبرر فيها القتل ويعتبر شرفاً وطنياً أو دينياً. أي أن الحرب هي الحالة الوحيدة التي تمنح بها رخص للقتل والتدمير.

ولذلك فقد حرص المتحاربون على اختيار الأشداء والأقوياء منهم لخوض غمار المعارك الطاحنة. وحيث إن الحرب كانت قديماً تخاض بأسلحة تقليدية مثل السيوف والرماح وبواسطة راكبي الدواب والراجلة، لم يكن الإعداد لها يتطلب إعدادا مهاريا وعضليا ونفسيا خاصا. خاصة كون الناس آنذاك يحملون الأسلحة أثناء حلهم وترحالهم، وكان تدريب الأولاد على ركوب الخيل واستخدام السلاح والرماية، جزءا من تنشئتهم الحياتية الطبيعية. زيادة على أن الحياة بقسوتها وشظفها آنذاك تمثل معسكر تدريب عسكري طبيعي. ولذلك أصبحت للحرب لديهم قيم وأخلاقيات يحافظون عليها ويراعونها أثناء الحرب وبعدها.

وتعتبر الحرب بالنسبة للناس آنذاك كرها لهم؛ حيث تأخذهم من بيوتهم وعوائلهم وتعطل أعمالهم؛ ولذلك فهي وسيلة دفاعية يضطرون لخوضها مرغمين عليها، لا راغبين بها. وكانت مدة الحرب (الاشتباك الفعلي) غالباً لا تتعدى يوما أو بعض يوم. إذاً فهي حالة استثنائية لا مهنة دائمة، عدا في بعض الحالات الاستثنائية التي مرت في فترات متقطعة في التاريخ. ولم تكن الدول قديماً تمتلك جيوشا قائمة ودائمة لها، ولكنها تجند الرجال القادرين على حمل السلاح من شعبها لخوض المعارك التي تضطر لخوضها، إما دفعاً لخطر قادم، أو هجوماً على خطر محتمل القدوم. إذاً فالحرب قديماً كانت مهمة وقتية تخاض لمدة محددة، لأجل قضية مصيرية مشتركة؛ تجعلهم يؤدون الحرب بشكل احترافي لا غبار عليه؛ وعندما يرجعون منها، يرجعون أناسا طبيعيين يمارسون حياتهم الطبيعية، كما كانت قبل الحرب، زيادة على كرههم لها، ودعواتهم بعدم اضطرارهم لخوضها ثانية.




ولكن الحرب الحديثة أصبحت أكثر تعقيداً من أي شيء آخر في حياتنا الراهنة؛ حيث أصبحت الحرب القديمة مقارنة بها، أقرب للمنافسات الرياضية منها للحرب الحديثة. وبما أن مهنة الطب القديمة، لا تقارن أبداً بمهنة الطب الحديثة، التي تتطلب مهارات خاصة جداً لإجراء عمليات جراحية دقيقة لأدق أعضاء الجسم وأكثرها حساسية، ولساعات طوال؛ فمقارنة الحرب الحديثة بالقديمة، مثلها مثل مقارنة الطب القديم بالحديث إن لم تكن أكثر تعقيداً. ولهذا السبب تم إيجاد الجيوش الوطنية الحديثة المحترفة، المتخصصة في خوض الحروب في الدفاع عن أوطانها. وذلك لأسباب وطنية ومهنية فرضتها طبيعة الحرب الحديثة.

فعندما تشكلت الدول الوطنية الحديثة في أوروبا في القرنين السابع والثامن عشر ميلادي، شعر ملوك الدول الحديثة بأنه لن تكتمل سيادة دولهم بدون إيجاد جيوش وطنية محترفة تابعة لهم.

حيث كانت جيوش تلك الدول في بداية تشكلها وتحديد حدودها السياسية، عبارة عن تجمعات من المقاتلين التابعين لأمراء ونبلاء مقاطعات الدولة المختلفة؛ وعليه كانت ولاءات المقاتلين لأمرائهم ونبلائهم أكثر من ولائهم لملك الدولة، الذي أصبح رأس الدولة الحديثة ورمزها الوطني. ولذلك حرصوا على تكوين جيوش محترفة خاصة بالدولة، تأتمر بأمرهم، لا بأمر أحد سواهم. خاصة عندما أخذت بعض قطاعات الجيش التابعة لأوامر نبلاء وأمراء المقاطعات تنقلب على جيش دولتها والذي من المفترض أنها تقاتل بصفه أثناء نشوب المعارك، بسبب تغيير ولاءاتهم، ووقوفهم للقتال بجانب جيش العدو، جراء إغرائهم بالمال أو منحهم المزيد من المساحات على مقاطعاتهم، بحال هزم ملكهم. هذا من ناحية ضمانة الأمن الوطني التي أدت إلى تشكيل الجيوش الوطنية الحديثة التابعة لرأس ورمز الدولة والمؤتمرة بأمره لا بأمر سواه.

أما من ناحية الضمانة والسلامة الاحترافية المهنية لمزاولة مهنة الحرب الحديثة، فأصبحت متطلبا يصعب الفكاك منه، في ظل التقدم التقني الحديث الذي دخل على الحياة بشكل عام وعلى آلة الحرب بشكل خاص، وقلبها رأساً على عقب؛ والتي ترتبت عليها متطلبات مهارية وجسمانية ونفسية خاصة، تحتم على المحارب التمتع بها، قبل خوضه غمار الحرب الحديثة بمخاطرها وتعقيداتها المتسارعة. فالعلم والتقنية الحديثة، بقدر ما جعلا ممارسة الحياة أكثر يسرا وسهولة، بقدر ما جعلا خوض الحرب أكثر تعقيداً وصعوبة. وهذه من المفارقات التي أبعدت ووسعت الشق بين طبيعتي الحياة المدنية والعسكرية.

فالحياة الحديثة وما يسرته من وسائل تقنية حديثة ورفاهية في المعيشة، أبعدت الإنسان شيئاً فشيئاً عن قسوة الحياة وشظف العيش.

وبنفس الوقت، أمدت آلة الحرب بصنوف أدوات القتل والتدمير السريع والمكثف. وعليه فقد وصف الجنرال الأمريكي يوليسيس جرانت الحرب بجهنم، هذا قبل قرن ونصف، في بداية استخدام النيران الكثيفة في الحروب، فما باله لو خاضها الآن! إذاً، فتحول الحياة لأكثر يسرا وسهولة والحرب لأكثر تدميراً وعنفاً؛ حتم على من يرشح لخوض المعارك أن يمر بفترة انتقالية يمر بها، ليتم تحويله من مدني لعسكري. وعلى هذا الأساس تم إنشاء الكليات والمدارس العسكرية، وذلك لأخذ الشاب من حياته المدنية الناعمة، وتحويله لعسكري، يكون جاهزاً لدخول جهنم ويتحرك بين النيران الكثيفة التي تنصب عليه من كل حدب وصوب، ويتخطى الجثث والأشلاء الآدمية، وبنفس الوقت، يؤدي المهمات القتالية الموكلة له بكل ثبات ورباطة جأش وانضباط بقدر المستطاع. فالكليات والمدارس العسكرية تقوم ليس فقط بإعداد الشاب ليكون مقاتلاً من الناحية البدنية والمهارية العسكرية، ولكن أيضاً وهذا الأهم، بإعداده نفسياً لتحمل الضغوط النفسية الشديدة التي سوف يجابهها أثناء خوضه غمار المعارك الشرسة، بكل انضباط وحرفية. وبعد تخرج العسكري من الكلية أو المدرسة العسكرية (من ثلاث لأربع سنوات تدريب وتعليم عسكري مكثف)، يتم تحويل المدني لعسكري جاهز للتدريبات العسكرية التخصصية. ولذلك يتدرب العسكريون شبه يومياً على التحمل البدني والانضباط السلوكي والتهيئة النفسية. هذا مع دخولهم في مناورات عسكرية شبه فصلية، يستخدمون فيها الذخيرة الحية.

وبعد عدة سنوات يكون جاهزاً لخوض المعارك، كعسكري محترف، لا يحب الحرب، ولكن يخوضها إذا فرضت عليه، ويتمنى أن يعود منها سالماً غانماً لأسرته وليترقى في مهنته العسكرية لرتب أعلى.

أما إذا تم أخذ الشاب من حياته المدنية الناعمة ومن أحضان والديه، وزج به لخوض غمار الحروب، التي لم يعد لها لا نفسياً ولا بدنياً، ولا انضباطياً، ولو تم تدريبه لعدة شهور على حمل السلاح، فإنه إما سيلقى حتفه، أو سيتعرض، جراء ضغوط الحرب النفسية الرهيبة، لحالة سعار نفسي، تخلق لديه الرغبة الشديدة في القتل والتدمير، وعليه يخلق منه وحش بشري، ينتظر التوجيه لممارسة شهية القتل والتدمير التي ابتلي بها، من وحش أكبر منه وأكثر رغبة وشهية على القتل والتدمير. وهذا ما يتعرض له بالتحديد شبابنا عندما يزجون في الحروب الخارجية، باسم الجهاد.

فهل من سبيل لتحريم وتجريم أي مواطن سعودي من الاشتراك في خوض الحروب الخارجية بدوافع فردية أو فئوية أو المناداة والتحريض عليها؟ مهما كان المبرر سليماً، خاصة كون النتيجة ستنعكس كارثية، عليهم وعلى الوطن حكومة وشعباً وعلى أسرهم بشكل خاص، وما حدث ويحدث الآن خير شاهد ودليل.