هل تمثل النكتة في الخطاب الوعظي جزءا من الوعظ أم جزءاً محايداً (غير وعظي)؟ هل يمكن للنكتة أن تكون محايدة ضمن الخطاب الوعظي؟ أن لا تتحول دلالاتها وقـِيَمها إلى جزء من الوعظ ومن ثم من التصورات الدينية التي يبثّها؟
تسجيلات الخطاب الوعظي الذي يعتمد على النكتة في موقع Youtube من أكثر التسجيلات مشاهدة وتداولاً، وأحياناً، يتم اقتطاع النكتة أو القصة الهازلة من سياقها الوعظي، وتداولها مجرّدة منه، مثل أي مقطع مسرحي أو تلفزيوني هزلي. تأخذ النكتة في الخطاب الوعظي دورها المتزايد بالتزامن مع توسع ظاهرة الواعظ الذي يعي ذاته كنجم ويعي حاجة النجومية إلى الجمهور، وتمثل النكتة الوعظية أحد إرهاصات تزايد الضغط على الشكل الوعظي ليكون أكثر جذبا وقابلية للتسويق. تكمن المشكلة في كون النكتة معتمدة بطبيعتها على السخرية واستغلال الوصمة الاجتماعية، اختلاق المواقف، توظيف المخيّلة الشعبية، بينما في نفس الوقت يعتمد الوعظ بشكل كبير على تأكيد انسجامه مع ذاته، والتزامهِ القِيَم الدينية في كامل الخطاب بما في ذلك النكتة. يحتاج الوعظ إلى درء هذا التعارض فيقوم بإخضاع النكتة للضوابط التي يجتهد كل واعظ في تحديدها، لكن التناقض بين طبيعتيّ النكتة والوعظ ما يلبث أن يفرض نفسه مجددا عندما يعجز الواعظ النجم عن التزام ذات الضوابط التي حددها لنفسه، أو حددها آخرون، فينتهي الأمر إما بإنتاج خطاب وعظي يستدمج في سياقه ذات النكتة الاجتماعية بكل ما فيها من (رذائل) يذمّها الوعظ ذاته، أو بإنتاج نكتة خاصة وعظية الشكل والموضوع، تتحول إلى مُسوّق للأحكام والانحيازات مهما توغلت في اللامعقول، وهو ما يصعب تمريره في خطاب جماهيري جادّ.
بعد مشاهدة بضع ساعاتٍ من تسجيلات الوعاظ المعروفين بتوظيف النكتة في خطابهم، وجدتُ أن مادّة التنكيت تغلب عليها ثلاثة موضوعات: المرأة، الشباب، الآخرون، من حيث هي الفئات التي تقلق الخطاب الوعظي بشكلٍ خاص في مسائل معيّنة، إلى جانب كونها موضوعات محبذة للنكتة بشكلٍ عام.
نكتة المرأة في الخطاب الوعظي: تتكرر النكتة حول موضوعين بالذات هما (المرأة قائدة للسيارة)، و(المرأة لاعبة كرة القدم). في الموضوعين تبدو المرأة كائناً شاذا عن طبيعته الأصلية، فهي عندما تقود السيارة سيفتقدها زوجها في البيت، "ثم سيكتشف أنها جمعت حريم الحارة في الوانيت وخرجت إلى الكورنيش!"، وفي مشهد آخر تترافق القيادة بصورة حتمية مع السُّكر، ويتصور الواعظ المرأة السائقة امرأة مسطولة "تطبخ العشاء في بيتها وتقدمه في بيت الجيران!" بما تحمله هذه الجملة من إيحاءات. لاحظ هنا تمرير اقتران قيادة السيارة بالكبائر الأشد تحريماً في الدين الإسلامي. واعظ آخر بينما يصف نعيم الجنة، أكّد للنساء أنهن لا يقدن السيارة في الدنيا، لكنهنّ سيقدنها في الآخرة. هذا يضعنا أمام نتيجة منطقية لطيفة هي: "من نعيم الجنة أن يسمح للمرأة بقيادة السيارة"، وعلى هذا تصبح قيادة السيارة في الدنيا إغواء محرما تجب مقاومته، وفي الآخرة نعيماً في مصاف أنهار اللبن والعسل وما لا خطر على قلب بشر! تقوم المرأة في النكتة الوعظية بأدوار أخرى شبيهة بأدوارها النمطية كمحتالة شرهة مغوية في النكت والقصص الشعبية، فهي توسوس لزوجها بالامتناع عن الزكاة فيستغيث زوجها لتخليصه من (إبليس امرأته)، وهي تغوي الشابّ الرياضي المشهور بصفتها مُعجبة. والسياق الوعظيّ الذي يحمل هذه النكتة يتكفل بمنح هذه الصورة الإبليسية للمرأة شرعية وصدقيّة.
نكتة الشباب في الخطاب الوعظي: يظهر الشابّ في النكتة الوعظية بصفته ضعيف الثقافة الدينية، كثير الذنوب، ومُعرضا بشكلٍ كبير لفقدان رجولته الذي يبدو موضوعاً مؤرقاً للوعاظ. يتمثل فقدان الرجولة عند بعض الوعّاظ في مجموعة سلوكيات كاستقذار التراب، والعجز عن احتمال حرارة الجو وعن التعامل مع البعير، رغم أن هذه كلها سلوكيات باتت طبيعية اليوم بحكم البيئة والتنشئة.
آخرون ذهبوا أبعد من ذلك وهم يختلقون النكتة حول الجمال الشكليّ للشابّ، أحدهم يقول إنه اضطر إلى غضّ الطرف بينما كان ينصحُ شاباً ما، والآخر يذمّ الجمال لكونهِ في رأيه سبباً في ملاحقة الولد صبياً وشاباً.
والمضمون الخطير لهاتين الفكرتين يتمثل في تكريسه التحرش والشذوذ قدراً حتمياً للصبيّ والشابّ ما لم يحظ بإحدى نعمتين: القُبح أو التديّن!
نكتة الآخرين في الخطاب الوعظي: يتمثل الآخرون في طيف واسع من أهالي المناطق والثقافات الأخرى، والعرب، والآسيويين، والحجاج. واللافت أن النكتة الوعظية تؤكد على الوصمة الاجتماعية لكل من هؤلاء، فالبدويّ يظهر كجاهل دينياً يفضّل الاستماع إلى شعر المحاورة على سماع الوعظ، والسودانيّ يحكي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلهجته العامية، واللبناني لا يفرق بين الواعظ الشاب وأئمة الحرم، والحاجّ الإفريقي يظن أن رائحة مطهّر الأرض هي رائحة الجنة. واللافت أن مثل هذه الطرائف تُقال صراحة وتُبثّ ببساطة، رغم أن الموادّ الساخرة من الآخر، تواجه عادة الكثير من الحرج والحساسية إعلامياً.
وتتمثل خطورة هذا الخطاب في كونه يأتي ضمن سياقٍ ديني وعلى لسان واعظ، ما يعطي شرعية لمضامينه التي قد تصادم صراحة قيماً جوهرية دينية، كما هو الحال مع المضمون العنصري، أو تؤكّد على الأفضلية الثقافية الدينية لجنسية أو فئة دون أخرى، وهو ما يصعب أن ينطق بهِ الوعظ صراحة.
يتفاوت الوعاظ في كثافة المحمولات التي تـُـثقل نكاتهم، تختلف أيضا الضوابط التي يقترحونها، هذا عموماً يوحي بنوعٍ من الوعي العام بمدلولات النكتة، وخطورة الشرعية التي يضفيها عليها السياق الوعظي، لكن إثبات هذا الوعي لعدد من الوعّاظ إنما يفضي إلى نتيجة عليهم (لا لهم)، لأنه يفرض سؤالا عن مدى تساهلهم الواعي أو حتى توظيفهم المقصود للنكتة بكل محمولاتها الخطيرة، وبما تخلقه من تناقض داخل الخطاب الوعظي ذاته.