ينظر البعض إليها على أنها سهلة دانية. لا تحتاج جهداً ولا تفكيراً. ما يمرق أمامك؛ ما يعبر بالبال يمكن بكل عفويّة توظيفه وتحويله إليها.. إلى جسدها الحمّال. صغير ومضموم لكنه يقبل ويحتمل حتى أصبح مجالاً شائعاً مباحاً؛ ميداناً سائغاً للرماية. ماذا ترمي؟.. ما غايته؟.. ليس ثمّة مشكلة في التحديد. مرونة هائلة وقدرة ضخمة على الاستيعاب تحت عنوان كبير اسمه:
القصة القصيرة جداً. فأضحى هذا اللون من الكتابة مرتعاً خصباً لا للتجريب بمعناه الجمالي الذي يتوفّر في البحث والتنقيب والحفر للعثور على لُقْيَة متميّزة أو صيغة تنفر منها الدهشة. إنما هو مساحة للتجميع والتكاثر غير الخاضع لمنطق أو تبرير. محضُ خفّةٍ واستسهال وجرأة فادحة لانتهاك البياض لمجرد أنه موجود، ولا بأس من التنكيل به.
المسألة بضعة أسطر وحشد صغير من الكلمات يُدفَع دفعاً من أجل خياطة "قصة صغيرة جداً".. والتي ضمن اسمها ركب الراكبون وجدّف المجدّفون نحو ادّعاء الوصل بليلى.
تفتح كتاباً وتريد أن تتواطأ مع ميثاقه التصنيفي على أنه قصص قصيرة جداً. الشكل الخارجي يستجيب من حيث مساحة القول وعدد الكلمات، لكنك لا تستطيع أن تذهب أبعد من ذلك. نصوص يضربها الوهن؛ تتفصّد بالتراخي والانفلاش. جملةٌ عائمة لا تنتمي إلى حرارة الواقع ولا إلى بريّة الخيال وجموحه. ليس من ريحٍ تضرب ولا عاصفة تقتلع. كتابة مطمئنة تخذل قارئها قبل أن تخذل جنسها. هي مغامرة شكليّة تتشبّث باليابسة وتستمسك بالمقعد الدراسي.
القصة القصيرة جدا بنتُ التوتّر والاختطاف، حيث انتقاء الضروري والاكتفاء بالدّال الذي يصنع الأثر المفارِق بما يتجاوز الحدث أو الفكرة لينساب في أبعاد جديدة يقوم بإنشائها المتلقّي تأسيساً على نواة الدّال وما يكتنفه من توتر لا يبوح إلا همساً وبعد مداورة. بهذا تنجو من التزيّد والمباشرة أو اللعبة المشهديّة اللفظية التي تتصنّع المفاجأة الكاذبة المكشوفة لأنها بلا حياة أصلاً؛ فقد وُلدت مشوّهة ميّتة.
في سياق التوتّر يمكن أن تعمل العناصر الأخرى من كثافة وإيجاز وإلماح ومن اشتغال على اللغة تتهذّب شجرتها وتلتمّ أغصانها ويُعاد تركيب الصورة وتوظيفها في الأقل من الكلمات؛ لكنها الكلمات التي ينبثّ منها الشرّر وتندلع الحرائق.
نعرف، يقيناً إحصائيّاً، أن الجمال محكوم بالندرة وأنّ الأغلبية دائماً تنتج ما هو رديء وقليل القيمة. وعلى هذا يكون الرّهان الذي أجده في مثل هذه الفلذة لماجد الثبيتي بعنوان "حكمة الطيران": (العصفور يقول لإخوته: "في نهاية الأمر هناك جاذبيّة").