قبل ثلاثين سنة تقريباً، أي في بداية هذا القرن الهجري، حصلتُ على (منحة الجامعيين) وهي قطعة أرض كانت تمنح لمن يحصل على الشهادة الجامعية، وسألت موظف المكتب الهندسي عن موقعها فأشار إلى خارطة المملكة المعلقة على الحائط قائلاً إنها تقع في حي القيروان إلى الشمال الغربي من العاصمة.
وبعد عدة أشهر احتجت إلى مبلغ مالي فعرضت الأرض للبيع على أحد الأصدقاء فوافق على شرائها بثمن جيد، لكنني أصررت عليه أن يستلمها الاستلام النافي للجهالة، وعند انتهاء الدوام استقللنا سيارته ذات الدفع الرباعي للبحث عن الأرض، وبعد مسيرة شاقة في صحراء مقفرة لعدة ساعات وجدنا أول علامة بيضاء من رسوم المخطط المسمى القيروان، واستدللنا على الأرض من خلال رقمها وإذا بها معلقة بين جبلين فوق وادٍ سحيق، وعند العودة لاحظنا أن مدينة الرياض غارت في الأفق البعيد وحال الانحناء الطبيعي للكرة الأرضية دون رؤية معالمها فضللنا الطريق واهتدينا إلى نور خافت تبين أنه مصباح معلق على سارية حفار، وبسؤال صاحبه عن الطريق إلى الرياض رفع سبابته نحو السماء قائلاً: ضعوا هذه النجمة في الحاجب الأيمن إلى أن تشاهدوا أنوار المدينة. لم نصل إلى الرياض إلا بعد أن ألقى الظلام ستارة داكنة على المدينة. اعتذر رفيقي عن شراء الأرض وتمتم قائلاً إنه يتوقع وصول العمران إلى القيروان في نهاية القرن الخامس عشر الهجري. بعد ذلك التاريخ بخمسة عشر عاماً أصبح القيروان حياً مأهولاً بالسكان وجزءا من العمران والآن تجاوزته المدينة بمراحل.
لهذا التمدد العمراني الأسطوري أعباءً مالية كبيرة تتمثل في إنشاء البنية الأساسية وتمديد شبكات الخدمات العامة، وله أيضاً سلبيات أخرى من أهمها ازدهار نوع ضار من الاقتصاد الطفيلي الذي يقوم على شراء الأراضي البعيدة وتركها للشمس والهواء كي تتضاعف قيمتها مع مرور الزمن ووصول العمران إليها.
في الدول المتطورة تكافح الحكومات هذا النوع من الاقتصاد بفرض ضرائب لا تقل عن ثلث أي زيادة في سعر الأرض، ويتم تحصيل هذه الضريبة عند البيع، كما تفرض العديد من الدول ضرائب سنوية على الأراضي الفضاء.
في المملكة تُعد الزكاة الشرعية على عروض التجارة، البالغة ربعا بالمئة، بديلاً جاهزاً وكفيلاً بحل هذه المشكلة إضافة إلى أنه سيُمد الضمان الاجتماعي بموارد هائلة من تلك الزكاة. وأخيراً فإن كان للتمدد العمراني للمدن السعودية من ميزة فهي استثمار فترة الرخاء الحالية في تطوير مساحات كبيرة من الصحاري، ستحتاج الأجيال القادمة إلى كل شبر منها عندما تتقلص موارد النفط.