اطلعتُ على مقالة الدكتور حسن الهويمل التي أسماها "العقل العربي يُودع ناقده"، تلك المقالة التي ودّع بها المثقف المغربي محمد عابد الجابري في أسبوع موته، ولا أدري كيف ستستقبل المغرب مثل تلك المقالة - إن كانت قد قرأتها - وهي تـُحاكم أحد أكبر مثقفيها، بدلاً من وداعه والدعاء له. ليس تعصباً للجابري، فللجابري آراء لا أوافق عليها، لكنني انزعجتُ من حزمة من الأسباب، منها، أنك تشعر أن د. الهويمل لم يقرأ الجابري أصلاً، وإنما قرأ تلخيصاً لما كـُتب في نقد مشروعه، ومنها أنه لم يناقش الأفكار الجوهرية الأساسية التي بـُني عليها نقد العقل العربي، وإنما حاكم شخص الجابري عقديا، حاكمه على أدواته ولامه على ميله للمدرسة العقلانية، وختم مقالته بالقول إن : "الجابري بكل ما يتوافر عليه من عمق في المعرفة وشمولية في الثقافة يعتريه في بعض اهتياجاته العاطفية تصرف غير مسؤول يستدرجه لمواجهة النصوص القطعية الدلالة والثبوت، وما علم من الدين بالضرورة، واقتراف خطيئة التعطيل بحجج واهية لا يقوم مثلها بصد المُسلـّمات واقتلاع الثوابت، وتلك القواصم (تمس أهليته الفكرية!) وتشكك في مواءمة منهجه وآلياته للمجال المعرفي الذي يخوض معتركه، وفي خريف عمره عمد إلى قراءة معاصرة للقرآن الكريم، لم أتمكن من استكناه مقاصدها، ولكنني من خلال تصوري لمواقفه ومنازعه أشك في جدواها وسلامتها، ولقد أشار بعض الدارسين إلى موقفه من أسباب النزول والخروج من مقولة الأصوليين بعموم الدلالة وارتهانه بخصوص السبب"!

محزنة هذه الروح المتشككة التي تحكم على كتاب لم تقرأه، بعدم جدواه وعدم سلامته، برغم أن هناك من اعتبر كتاب الجابري الأخير ردة ثقافية تحول فيها المثقف إلى شيخ، ولا أدري ما دخل الأهلية الفكرية هنا، ولا أعتقد أن المفكر أو الفيلسوف يجب أن يكون مع رأي الدكتور الهويمل لكي نحكم عليه بأنه مفكر وفيلسوف ومحلل للنصوص، وقول بعض الأصوليين بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وصرف النظر عن أسباب النزول هي إحدى الركائز التي يتكئ عليها التكفيريون في تكفيرهم للحكومات العربية بناء على آية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) فقد أعرضوا عن أسباب النزول وأخذوا بالنص وعمّموه، لا أدري إن كان الدكتور يعرف هذه المعلومة أم لا!

أضف إلى هذا أن المسألة قاعدة أصولية مُختلف عليها وليست قرآنا ولا حديثا حتى، ثم أضف أن الكلام الذي نقلته من كلام د. الهويمل فيه مجازفة غير صحيحة خصوصاً عندما زعم أن الجابري خالف ما علم من الدين بالضرورة، فهنا توقعتُ أن د. الهويمل سيـُكفـّر الجابري، لكنه توقف وأحالنا هنا للمختص في العقيدة فنقل عمن يثق بهم أن الجابري ليس بعلماني ولا ماركسي وإنما وقع في جنح بسبب انجرافه وراء التجديد غير السوي!




د. الهويمل صرح في مقاله بأنه قد أخذ هذا النقل عن كتاب مفرج بن سليمان القوسي المسمى (الموقف المعاصر من المنهج السلفي) ومعنى كلام القوسي الذي نقل عنه الهويمل أن الجابري ليس بكافر، وهذا النقل يدين قول الهويمل إن الجابري خالف ما علم من الدين بالضرورة، ويدل على خطئه، إذ هما لا تجتمعان. هذه مشكلة جديدة حين يمارس المحاكمة العقدية رجل مثقف لا يحسن التكفير ولا يعرف ضوابطه ولا معنى ما قال، لا ألوم مفرج القوسي أو غيره من المشايخ في الكتابة عن قضايا النقد العقدي والتصنيف ما لم يصل الأمر إلى التكفير والإلغاء، ولو ثبت عند القوسي مخالفة الجابري لمعلوم من الدين بالضرورة لكفـّره بلا شك، لكن المشكل بالنسبة إلي أن يتحول مثقفونا إلى قضاة.

د. الهويمل جزء من شريحة من مثقفينا الذين يمارسون شيئاً هو أبعد ما يكون عن العناية بالشأن الثقافي، قرأتُ لأحدهم مرة نقداً عقدياً لشعر شعراء المهجر! ولن يفيدك أن تقول هذا شاعر مسيحي إلا كما استفاد صاحب قصة حلـْب الثور. هذه الشريحة التي نراها تكتب في صحافتنا تمثل ظاهرة أفرادها جماعة من مثقفينا "تاهوا عن مهمة المثقف". فالقارئ الكاتب مهمته هي مهمة الفكر، التجديد والتنوير والتغيير، معادلة سهلة، يسقط الطالح فيها ويبقى الصالح، لكن هذه الشريحة لم تصمد أمام الضغط فاختارت أن تتماهى مع السائد، فهي لا تقرأ لتمارس الفعل الثقافي وإنما تقرأ لتحاكم، وتاريخ مسيرة الثقافة السعودية من حقه أيضاً أن يدون ويرصد كل هذا الذي يحدث.