كانت جارتنا في حي الكنج ستاون بولاية فيرجينيا السيدة كرستينا رود المتجاوزة 70 عاماً، تصحو كل يوم قبل سكان الحي، تقوم بجولة حول مضمار بحيرة الليك فالِج، لتنظيف ممرات البحيرة، ثم تعود على مواقف السيارات حاملة عصا معقوفة من مقدمتها لا تكاد تراها إلا لدى عمال النظافة وخبراء التنظيف، وبيدها الأخرى كيساً تضع فيه بقايا صغيرة، تلتقطها لتنقلها إلى المجهول في ذلك الكيس الأسود الذي تقول عنه إنها علاقة وشيجة ليست باللون الأسود بل منه وبه لأقوم بتحويل حيِّنا إلى واحة خضراء. تصف علاقتها بهذا العمل بعِشرة 65 عاماً منذ أن جلست على أول مقعد خشبي في دراستها لمرحلة الروضة.
يشدك إليها الاستمتاع ونشوة الفخر التي تعتريها عند كل صيد ثمين ترصده لتحوله إلى غابات خضراء من النقاء مخضبة بجمال الرسالة، غضبت من سؤالي الأخير: هل ما تقومين به هو من تداعيات التقاعد وآثاره؟
أجابتني ثائرةً وهل الإنسان لايصنع الجمال أو يشارك به إلا في صغره.
تنمية الذات هي تربية تتدرج مع الإنسان من صغره وقناعاته بالخير وعمله وهذه رسالتي في الحياة.
ومع اختلاف البيئة، أجزم أن لدينا نماذج باهرة متناثرة تنبئ عن مكنون ثمين من أصحاب الرسالات الإنسانية التي يحملونها ولكنني لن أراهن سوى على تلك القامة السامقة القادمة من أعماق شموخ جبال عسير التي تقدح زناد عشق الوطن كرسالة خضراء اعتنقها عبدالله بن علي بن عفتان مع تراب الأرض وطهر الرسالة بعصامية انطلق منها من على مقاعد مدرسة (الكُتَّاب) في قريته بني رزام بمنطقة عسير حتى عمل مدرساً بإحدى مدارسها العتيقة ثم التحق بالعمل بوزارة الشؤون الاجتماعية عام 1381هـ وتدرج وظيفياً حتى المرتبة الرابعة عشرة كمستشار اجتماعي حتى تقاعده عام 1419هـ.
بعدها بدأ العزف على أوتار عشق رسالته من فيض العطاء، ولأنها من دواخل الذات التي يستضيفها وبتحرر كامل بين مقصلة (الأنا) و(الوظيفة) كوّن معادلةً لاحدود لها من عشق الرسالة وصمت الحكمة، فاستمر وأصبح عضواً لأكثر من عشر لجان ومؤسسات ومجالس تنموية في منطقة عسير وخاصة الملامسة للجوانب الإنسانية واستكناه بواطنها من إصلاح ذات البين ورعاية الأيتام والأطفال المعاقين ومشرفاً على مراكز النمو بمنطقة عسير. ومن التأليف ما صافح به مكتبة الكونجرس الأمريكية في النشر التاريخي والاجتماعي، لتمطر عطاءاته بسيلٍ يفيض من الوفاء وحب الوطن.
يقول ابن عفتان: "أصبحت رسالتي في الحياة أكثر رحابةً بعد العمل الحكومي، وجعلتني أتنقل أبحث عن بصيص العمل الخيري والتنموي الذي يجعل الإنسان أكثر مشاركةً والرسالة حب الوطن".
نعم إنها رسالته في الحياة التي تختزل مناهج (الوطنية) في مدارسنا جعلته يمتطي صهوة العمل الإنساني النبيل بمهارة لايجيدها إلا النبلاء بتمييز بين العزف المنفرد الأصيل من النشاز الباحث عن الإعلام وأدواته التي توارى عنها دوماً ليعيش (ابن عفتان) في ظل سامق يقدح زناد الغيرة والعطاء وينثر بذرة الإخلاص وشحذ الهمم في جيل الأبناء، لمس ذلك الجميع من خلال تعامله ومواقفه المتواضعة المحفزة والتي تجلت دائماً في طرق أبواب مصلحة وطنه عطاءً منثوراً وشعاعاً دافقاً من عمره.
الثروة البشرية من أصحاب الرسالات المتميزة هي مفصل ترتكز عليه حضارات الأمم فلا حياة دون رسالة تكون نبراساً في الوعي واللاوعي وغيابها ضياع للعمر والأوطان.
وكثير من مجتمعنا يعيشون مللاً وتذمراً بخلط كبير بين هدف الوظيفة وإغراءات الدعة بحجة التقاعد وانتهاء الخدمة وغياب الرسالة لدى الكثير، ولهذا نجد الفارق شاسعـاً بين من لايعيش إلا كما يرغب بـه أو يبدو له ويصادفه، وآخر لـه رسالة يعمل من أجلها ليحققـها في حياته، فالأول يعيش في حيرة وملل ومثل هؤلاء قد ينتظرون للأبد بحثاً عمن يخبرهم كيف يعيشون ولِمَ يعيشون حتى موتهم وبعده؟!
والثاني يضيف دائماً إلى حياته والآخرين طاقات ملتهبة وبمثل هؤلاء المنقطعين في صوامع الرسالة في الحياة تقوم الحضارات وتُستنهض الهمم من جبين الهمة الناصع في زمن لاتزف فيه سوى الإنجازات المتعمقة من نظرة المبدعين المهووسة إلى المستقبل والتنمية والإصلاح.