في عام 1975 ذهبت للاختصاص في ألمانيا، التي كان اسمها غربية واليوم لم تعد شرقية وغربية بل اتحاد أوروبي!

وفي معهد جوته لتعلم اللغة هجمت علي مجموعة من طائفة لم أعرفها من قبل ؟ أهلا وسهلا بكم ماذا وراءكم ؟ قالوا نريد أن نجلس إليك ونتحدث معك ! قلت لهم تفضلوا في المكان متسع! كانوا مجموعة من رجال وامرأة لهجتها مصرية.

قالوا نحن برج المراقبة شهود على العالم (شهود الله ويسمونه حسب ماورد في العهد القديم يهوفاس) والمسيح اقترب موعد قدومه للعالم، وهو سيأخذ معه إلى الجنة مجموعة منتقاة بعناية




أوه .. صحيح والله إنه خبر مثير ومن هم وما عددهم وكيف سيحددون؟ قالوا هذا بالضبط ما جئنا من أجله! ونحن نريد أن ننقذك من نيران الجحيم! أنت من أي دين؟

قلت لهم أنا مسلم على دين إبراهيم حنيفا ولم يك من المشركين!

قالوا حسنا إذا علينا ان نعظك ونذكرك ونقول لك أن استعد لّلحاق برحلة المسيح الذي اقترب موعد قدومه للعالم.

قلت لهم ياترى كم عدد الناجين؟ قالوا في حدود مائة ألف أو يزيدون

قلت من كل العالم بأربع مليارات (مؤتمر بوادبست لعام 1975 م أوصل رقم البشر إلى أربع مليارات والآن تجاوز الرقم ستة مليارات؟) قالوا نعم للأسف؟ ولذا نحن ناشطون بالبشارة والتركيزعلى الإنجيل من العهد القديم والجديد

كانوا علي غريبين ثلاث مرات؛ شدة نشاطهم وحماسهم مع صغر عقولهم، وتركيزهم على العهد القديم (توراة اليهود) وهم يدعون النصرانية، وأخيرا هذا الجزم المخيف بعودة المسيح القريبة للعالم، وإنه لعلم للساعة..

طلبت منهم كتبهم قالوا في أي لغة تريد؟ قلت العربية! أحضروا لي نصف طن من الكتب المجانية أو بسعر رمزي، ومنها نسخ متعددة للإنجيل الذي هو العهد الجديد، ولا حظت عداوتهم الشديدة لبقية فرق النصارى من الكاثوليك والبروتستانت والمورمون والسريان والأرثوذكس والأقباط..

كانت رحلتي في ألمانيا من هذا الجانب مثيرة جدا، فأنا رجل بالأصل من مواليد مدينة القامشلي، وهي متحف حي متنقل للملل والنحل؛ ففيها أي القامشلي عشر لغات وخمس عشرة لهجة وثمانية أديان؟؟ لذا قلت فلأمسح مذاهبهم وآراءهم، وهناك تعرفت على عشرات الفرق من الملل والنحل، ومنها فرقة شهود يهوه الذين ينشطون في كل زاوية وحارة ويطرقون الأبواب لكسب الأتباع.

لم تبق علاقتي بهم في مدينة الفلاح الصغير (بلاو بويرن Blaubeuren) حيث معهد جوته لتعلم اللغة الألمانية، بل تابعتها مع نشطائهم في مدينة (زيلب Selb) في بافاريا من جنوب ألمانيا، وسجلت عشرات الساعات لنقاشاتي معهم، وذهبت إلى كنيستهم وحضرت مشاهدهم وغناءهم وتمثيلياتهم، وتعجبت من تفانيهم في الدعوة والإرشاد.. ثم عرفت أن الأصوليين من ملة واحدة أينما اجتمعت بهم.

وفي النهاية يئسوا مني وخلصوا نجيا وقالوا إنه سمكة قرش تقضم حبالنا وتهلك أسلاكنا فلنذهب لنصيد سمك السلمون والسردين فهو أسهل وأربح.

خبرتي مع النصارى تعود إلى القامشلي حول ألوهية المسيح، وكان الكردي إبراهيم يقول لهم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون..

وفي القامشلي شممت رائحة خلافاتهم العقدية بين كاثوليك وبروتستانت وسريان وأرمن وآشوريين وأقباط وروم وآراميين وكلدان..

إن مدينة القامشلي عجيبة أليس كذلك؟ فقد امتلأت بمن عبد حتى الشيطان؟؟ نعم إنهم اليزيديون وليسوا زيديي اليمن.. وكل أمة تدعى إلى كتابها يوم القيامة جاثية في يوم التغابن.. فلنتحمل بعضنا.

وروت لي ابنتي من مدينة معلولا في هضبة جيرود ويبرود من سوريا، أن ميل جيبسون المخرج الأمريكي جاء وتعلم الآرامية فيها مع ممثل آخر قاموا بعدها بتمثيل فيلم آلام المسيح وهو من أسوأ الأفلام التي رأيتها عن المسيح، فكلها جلد وتعذيب ودماء وكأنها فروع مخابرات.. ونشطت مدينة معلولا فقد أصبحت محطة للسواح والزوار وفيها كنيسة قديمة في الجبال لناشطة مسيحية هربت من عسكر الرومان فانفلق الجبل وبنى لها كنيسة ومغارة ومدخلا ونجاة. والحاصل الأساطير ليس لها نهاية..

لقد تورط من قتل الحسين بمشكلة كبيرة أدت لتفريخ طائفة تضرب نفسها بالسلاسل من أجله إلى اليوم، كما تورط اليهود في مد يدهم للمسيح بمشكلة كبيرة، تكلم عنها القرآن من أجل تخليص الضمير الإنساني بمأساة الفشل، أن الله أنقذ المسيح فما قتلوه وما صلبوه، ولكن المشكلة الفعلية بدأت بالاضطهاد، واليوم يدعي وصلا بالمسيح عدد من الناس في الأرض هم أكثر عددا من المسلمين..

كنت في سفرة من القامشلي إلى دمشق فوقع تحت يدي كتاب محاضرات في النصرانية لمحمد أبو زهرة، والرجل أزهري يعتبر مدرسة في التأليف، قد كتب سلسلة من الكتب في حق الشخصيات الإسلامية فأبدع، وكتابه عن النصرانية قرأته في تلك الرحلة بشغف شديد حتى حفظته تقريبا، وتابعت الموضوع فأمدتني الثقافة الألمانية بفيض لاينتهي من الأبحاث عن المسيحية، كان أكثرها إثارة ملفات وادي كمران عند البحر الميت وهي قصة درامية تحتاج إلى بحث مستقل.

واليوم بين يدي ملفات ضخمة عن هذا الموضوع، بل إن مالك بن نبي روى لي شخصيا عن كتاب كتبه عن النصرانية كان خائفا من نشره للسيناريو الذي رسمه حول أسطورة صلب المسيح وكيف نجاه الله من العذاب الأليم.

وهذا بدوره يحتاج لمقالة مستقلة مثيرة؛ فأكون أنا أول من يشير إلى كتاب ضائع لمالك بن نبي لم ينشر بعد ولم ير الضوء؟ ولقد كتبت كلماته في مذكراتي الشخصية..

أنصح القراء بقراءة تاريخية متفحصة لقصة النصرانية في التاريخ، وهو أمر كان يذهل الألمان حين كنت أقول لهم هاتوا لي نصا واحدا من الأناجيل الأربعة يزعم فيه عيسى بن مريم أنه الله؟ فكانوا يصدمون ويقولون : مو معقول (Unglaublich) كنت أجيبهم هذا اللامعقول هو حقيقة الأناجيل، فكانوا يستطيرون عجبا من جديد؟ فمن أين إذا أتت كل عقيدة التثليث وألوهية المسيح؟؟

كان جوابي التاريخ اقرئوا التاريخ ففيه النبأ اليقين. عام 325 تم تأليه المسيح في مجمع نيقية، وفي عام 389 م تم تدشين الثالوث المقدس في مجمع خلقيدونة

لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب..

اطلعوا على كتاب محاضرات في النصرانية وعدد مجلة در شبيجل الألمانية 14\ 2010 بالعنوان العريض (غير المعصوم Fehlbar) بتبديل كلمة المعصوم بإضافة غير، ومعها صورة البابا وقد اختلت القلنسوة البابوية فوق رأسه..

هدفنا من كل هذا ليس إظهار خطأ مبدأ ومحاسن آخر، بل لفت النظر إلى الصراع العقدي وولادة العقل النقدي..