قد تكون الصدفة المحضة هي التي حددت مصير فارس بن حزام، ذلك الشاب اليافع القادم من الدمام عاصمة الساحل الشرقي قبل 15 عاماً. ومن خطأ ارتكبه أحد أقاربه، حيث ملأ استمارة القبول الخاصة به في جامعة الملك سعود. فبدلاً من اختيار كلية العلوم الإدارية التي "قرر" الالتحاق بها اختار له كلية الآداب، ولم يُحاول فارس تصحيح ذلك الخطأ، رغم أنه كان يستطيع ذلك، ليبدأ في قسم الإعلام الذي دفعه للعمل الصحفي الميداني عبر صحيفة "اليوم" بمجرد إتمامه الفصل الدراسي الأول من العام الجامعي. كان ذلك عام 1996. نعم، قد تكون البداية من فعل الصدفة كما يحدث في كثير من التفاصيل والبدايات والاختيارات والقرارات التي نتخذها في حياتنا، ولكن الأمر شيئاً فشيئاً يحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك. يحتاج إلى رؤية واضحة وهدف محدد وإرادة قوية. وهذا ما حدث تماماً مع الصحفي الصغير فارس المتخرج للتو من قسم الإعلام، حيث تنقل بين العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والعربية، ولكنه لم يحظ بالشهرة الواسعة والمكانة المرموقة إلا بعد أن اتخذ القرار الأصعب في حياته، بعد تفكير عميق ودراسة متأنية، مـُنهياً هيمنة وعبثية الصدفة، حيث قرر التفرغ التام للصحافة والتخصص في شأن محدد لم يطرقه أحد من قبله. يقول فارس بن حزام المتخصص في شؤون الحركات الإرهابية ورئيس التحرير في قناة "العربية: "التفرغ التام والتخصص في مجال معين في الإعلام هما الطرفان الأساسيان لمعادلة النجاح في مسيرة الصحفي، بل والإعلامي بشكل عام".
بدأتُ بهذه التجربة الإنسانية الحقيقية لأحد الإعلاميين الناجحين الشباب كتمهيد يؤسس للفكرة التي يحملها هذا المقال، وهي الغياب الواضح لمفهوم التخصص في صحافتنا المحلية. والغياب هنا يشمل كل مكونات المنظومة الصحفية من كتّاب ومحررين وصحفيين ومادة صحفية وبيئة ووسط صحفي. فعلى الرغم من الكم الهائل من الكتّاب والمحررين الذين يمطرون الساحة المحلية يومياً بعشرات ــ بل مئات ــ من المقالات والتحقيقات والأخبار والاستطلاعات وباقي الأشكال الصحفية المختلفة، إلا أننا لا نجد بينهم إلا النزر القليل جداً من المتخصصين والخبراء والدارسين لتلك القضايا والشؤون التي يتطرقون لها. ولنأخذ فئة الكتّاب على سبيل المثال، وهم كما يُقال قادة للرأي والفكر والتنوير والتأثير، ومع كل ذلك تغيب عن معظمهم المهنية والاحترافية والتخصص. وبمسح سريع لبعض المشاهير تجد غالبيتهم يتناولون قضايا ومواضيع بعيدة كل البعد عن نطاق تخصصهم الأكاديمي والعملي، ولا تقترب من واقع خبراتهم الشخصية أو تجاربهم الحياتية. ولعل ما يُثير التساؤل والاستغراب هنا هو محاولاتهم الخوض في تلك القضايا والشؤون بشيء من العمق والنقد والتحليل، لا مجرد توصيف ما أو إثارة حدث هنا أو تكثيف الضوء على شأن هناك. فتجد أحدهم ــ وقد أكون أنا ــ يكتب في كل شيء، وعن أي شيء، في الملف النووي الإيراني وخطره على دول الخليج، وتفشي ظاهرة التحرش الجنسي في مدارس البنات، والأسباب المنطقية لتجديد الثقة للبرتغالي جوزيه بيسيرو المدير الفني للأخضر، وخطورة الدودة الحمراء على مستقبل صناعة التمور في بلادنا، والحجاب بين الشرع والموروث الاجتماعي، وجدوى خصخصة الخطوط الجوية السعودية، والكثير الكثير من القضايا والمواضيع، حتى يُخيل لقراء ذلك "السوبرمان"، أو ذلك الكاتب الموسوعي الفذ أنه خبير في كل ألوان المعرفة ومبدع في شتى الفنون، أو هو "بتاع كله" كما في اللهجة المصرية الجميلة.
يبدو، حتى الآن، أن هذه العبارة الرائعة "عصر التخصص" لا وجود لها في قاموسنا الإعلامي، بل وفي كل تفاصيل حياتنا.
وغياب التخصص هذا يطال إلى جانب النفط العديد من المجالات والقطاعات الأخرى التي تزدهر في هذا الوطن الكبير، كصناعة التمور في القطيف والأحساء والقصيم، والزيتون في مدن وقرى الشمال، والأماكن الأثرية والمعالم السياحية التي تنتشر في كل أرجاء الوطن، وغيرها من القطاعات والمجالات التي تحتاج إلى وجود محاضن علمية متخصصة وإعلام متخصص يلتزم المهنية والحرفية للتعريف والترويج والتسويق لتلك القطاعات والمجالات.
لقد أنعم الله على هذه البلاد العزيزة بالكثير من الثروات والخيرات والإمكانات ــ المادية والبشرية ــ ما يـُؤهلها للوصول لمصاف الدول المتقدمة والمتطورة، وأظن ــ بل أجزم ــ أن السبيل إلى ذلك لن يكون إلا بالعلم والمعرفة والإيمان بعصر التخصص.