كان لافتاً بالنسبة لي أن يوجه خادم الحرمين الشريفين خطاب شكر لأعضاء هيئة كبار العلماء بعد بيانهم الذي رفعوه إليه الذي جرموا فيه تمويل الأعمال الإرهابية، والذي جعله لافتاً بالنسبة لي أن خادم الحرمين الشريفين قال في خطابه إن ما قاله أعضاء الهيئة في بيانهم هو كلمة حق، وهي كلمة حق بالفعل، لكن الذي أفهمه أن كلمة الحق ينبغي أن تقال في وقتها، أما أن تتأخر عدة سنوات فهذا يثير علامة الاستفهام، ولهذا ظللت أتأمل خطاب الشكر من خادم الحرمين لأعضاء الهيئة، وأقول لنفسي إننا نقول إنه لا شكر على واجب، وما قام به أعضاء الهيئة هو واجبهم، فما القصد من شكر أعضاء الهيئة على القيام بأمر هو أصلاً من واجباتهم؟ لكن هذا ليس هو الأمر الأهم، بل الأهم هو تأخر كلمة الحق هذه عدة سنوات، فما الغرض من شكر أعضاء هيئة رسمية يؤدون واجبهم على قول كلمة حق تأخروا في قولها مدة طويلة...؟
إنني أفهم خطاب خادم الحرمين الشريفين على أنه بقدر ما فيه من شكر على موقف جديد فهو عتاب مهذب على موقف قديم، ومما جعلني أفهم هذا أن هذا البيان الجديد الذي تم فيه تجريم تمويل الإرهاب هو في واقع أمره  ـ أو هكذا يفترض أن يكون ـ بيان إلحاقي لبيانات الهيئة الأخرى التي أصدرتها قبل هذا البيان بعدة سنوات في الأعوام 1409، 1416، 1417، 1424، فهو يشبه الإضافة التي سقطت سهواً، أو الاستدراك، ففي هذا البيان الأخير تم تجريم الإرهاب بشكل صريح، وتجريم تمويل الأعمال الإرهابية وهو ما لم يحصل في البيانات السابقة التي كانت تدين الأعمال التخريبية والإفساد في الأرض وما يشبهها من تعابير كانت تتضمنها تلك البيانات وتم التركيز فيها على ما يصيب المملكة.
لقد كنا في أمس الحاجة لإصدار مثل هذا البيان الصريح القوي الذي يجرم الأعمال الإرهابية التي تتعرض لها المملكة ويتعرض لها العالم، وتجريم تمويلها، منذ بدأ الإرهاب في الظهور، وبدأ يصبح مشكلة كبرى تواجه الكثير من دول العالم وخاصة بعد أن أصبحت المملكة على المحك بعد أحداث سبتمبر الشهيرة، إذ كان المفروض أن تكون المملكة هي أول من يتبرأ ويدين تلك الأعمال الإرهابية ممثلة في أجهزتها الرسمية والدينية ، وعلى رأس تلك الأجهزة هيئة كبار العلماء، لأن المملكة وأبناءها آنذاك كانوا في دائرة الاتهام بعد أن اشترك بعض من ينتسب لها ويحمل جنسيتها في تلك الأحداث، لكن الذي حصل أن أعضاء هيئة كبار العلماء ظلوا يصدرون البيانات القوية التي تدين الأعمال التخريبية التي تتعرض لها المملكة التي لا تعطي الانطباع لدول العالم التي كانت تتعرض للأعمال الإرهابية أن تلك البيانات إدانة لما تتعرض له هي أيضاً وإدانة للأعمال الإرهابية نفسها بالمصطلح الذي أصبح معروفاً.
لقد استطاعت المملكة آنذاك بدون شك تجاوز هذه المحنة، بل وأثبتت لدول العالم وأقنعتها أنها أكثر من غيرها رفضاً لهذه الأعمال الإرهابية العدوانية، ونجحت في تجاوز الموقف الصعب بفضل حكمة قادتها، والموقف القوي الواضح لكثير من أبنائها، وبفضل العمل الكبير المضني الذي بذله الكثير من أجهزتها الرسمية وغير الرسمية، والذي تمثل في الكثير من الوفود التي جابت العالم وأثبتت لهم أنها هي المتضررة من الإرهاب أكثر من غيرها، وبهذا تجاوزت الموقف الصعب الذي وضعها فيه مجموعة ضالة من أبنائها كان سيكلفها الكثير، ومع كل هذا ظلت هناك شائبة تعكر صفو هذا النجاح، وتبقي بعض علامات الاستفهام، وهي طبيعة تلك المواقف التي تصدر من أجهزتها الدينية التي كانت لاشك قوية في رفض ما تتعرض له المملكة من أعمال تخريبية وقوية في إدانة ذلك لكنها لا تعطي الانطباع بمشاركة دول العالم الأخرى مأساتها وبرفض الأعمال الإرهابية بكل شمولها، وبالجهر القوي بأن المملكة بكل أجهزتها ترفض وتدين الإرهاب وتتآزر مع كل دول العالم في مواجهته.
والذي أعتقده أن هذا الغموض في موقف أجهزتنا الدينية لم يكن ناتجاً عن تردد في إدانة الأعمال العدوانية التخريبية التي كان يتعرض لها كثير من دول العالم من الإرهابيين ولكنه ناتج من اللبس الشديد الذي أوجده مصطلح (الإرهاب) ، فهذا المصطلح بمعناه الوافد المقصود الذي هو الاعتداء على المدنيين وإخافتهم لأغراض سياسية يتصادم مع مصطلح (الإرهاب) في الثقافة الإسلامية كما ورد في القرآن الكريم الذي يعني إرهاب العدو بإعداد القوة والعدة وإبرازها ليراها ويشعر بتأثيرها فيرتدع عن عدوانه، والدليل على ذلك هذا النأي الشديد عن استخدام هذا المصطلح في جميع بيانات هيئة كبار العلماء الخمسة التي بدأت في عام 1409 وانتهت في عام 1424 قبل هذا البيان الأخير الذي تم فيه تجاوز هذه الحساسية وتم النص فيه بوضوح على تجريم الإرهاب وتمويله عدا عبارة عابرة وردت في آخر البيانات.
ومن جهة أخرى فقد كان هناك أمران شائكان آخران جعلا إدانة الإرهاب وتجريم تمويله أمراً عسيراً لدى أجهزتنا الدينية، أولهما ذلك التلاحم والتشابك بين مصطلح الإرهاب ومصطلح المقاومة، خاصة مقاومتنا الإسلامية، والذي زاد الأمر تعقيداً في هذا أن الذين استخدموا مصطلح الإرهاب أصلاً يعتبرون بعض أعمال المقاومة الإسلامية إرهاباً. أما الأمر الشائك الآخر فهو مرتبط بإدانة تمويل الإرهاب، وقد نشأ هذا من طبيعة العمل الخيري لدينا، وكثرة الجمعيات الخيرية، والخوف من أن يؤثر تجريم تمويل الإرهاب على العمل الخيري ويحد منه، وبسبب هذا التشابك في المصطلح والتمويل  ـ كما أرى ـ حصل اللبس والتردد، وهذا في رأيي لا يمكن أن يكون مبرراً مقبولاً للحيرة وجمود الموقف حيال أمر بالغ الحساسية والأهمية، خاصة حين تكون الحيرة وجمود الموقف فادحي الضرر بنا، إذ كان المفروض معالجة مسألة المصطلح في حينه، والتصرف وفق ما تفرضه قيمنا الإسلامية ومصالحنا الكبرى.
ومما يؤكد أن إشكالية المصطلح هي السبب في التردد والتأخر أن أعضاء هيئة كبار العلماء في بيانهم الأخير الذي جرموا فيه تمويل الأعمال الإرهابية وتجاوزوا حساسية المصطلح لم يوردوا تعريفاً واضحاً للإرهاب، بل أوردوا أمثلة لأعمال عدوانية لا يختلف اثنان في إدانتها وبالتالي لم يقدموا تحديداً دقيقاً شاملاً لما حرموه وإنما قدموا صيغة يمكن القول عنها إنها خروج من الحرج.
أعود لما فهمته من خطاب خادم الحرمين الشريفين لأعضاء هيئة كبار العلماء لأؤكد أنه لا يخامرني أدنى شك في أن الخطاب مفعم بالشكر والامتنان للموقف الجديد، لكنه – كما بدا لي - يعكس إحساساً بالعتب من الموقف السابق، وحين أعبر عن فهمي فإن ذلك لا يعني، ولا يمكن أن يعني، أني أعبر عن مقاصد خادم الحرمين، لأني لا أملك ذلك أصلاً، فأنا أتحدث عما يحق لي أن أتحدث عنه وهو فهمي للنص الذي قرأته، ومعروف أن قراءة المتلقي لأي نص قد تختلف كثيراً عن مقاصد صاحبه وقد تتوافق، وحين يعبر قارئ النص عن فهمه فلا يمكن القول إن هذا الفهم هو المعنى الصحيح للنص، بل يمكن القول إنه معنى من معاني النص يمثل ذلك القارئ الذي عبر عن فهمه له، فليس هناك معنى واحد صحيح للنص، بل هناك مقصد واحد صحيح للنص هو مقصد صاحبه، أما معاني النص فقد تتعدد بتعدد مفاهيم قرائه، وأنا واحد منهم. العبرة من كل هذا أن المقارنة بين موقفين مختلفين في تأثيرهما على مصلحة الوطن قد يكون لها تأثيرها العاطفي الشديد حتى على نفسية السياسي، فحين يكون الوطن في أمس الحاجة لقول كلمة الحق من بعض أبنائه في وقت بالغ الحرج يتعرض خلاله للمخاطر، ويكون لتلك الكلمة أثرها الإيجابي المحتمل في المساهمة في دفع هذا الضرر، ثم تحجب هذه الكلمة حتى عن حسن نية، فإن ذلك يحز في النفس كثيراً، ويبعث الألم والعتب الشديد على هؤلاء الأبناء، ولذلك يحصل العكس في الموقف المعاكس، حين يبادر فريق آخر يقوم بالمهمة نفسها بتقدير الموقف، فينطق بكلمة الحق هذه لتكون متراساً يساهم في حماية الوطن من الأخطار، إذ حينئذ لابد أن تتفجر العاطفة شكراً وامتناناً لهؤلاء حتى لو أنهم لم يقوموا إلا بتأدية عملهم، والنطق بكلمة حق واجبة.
فشكراً يا أعضاء هيئة كبار العلماء.. شكراً لأنكم قمتم بواجبكم وقلتم كلمة حق تأخرتم أو ربما تأخر غيركم في قولها عدة سنوات مع أننا كنا ومازلنا في أمس الحاجة إليها.