على الرغم من أن الصداقة حاجة إنسانية بحتة، إلا أن ما يميزها أنها تقوم على الاختيار. بعكس العلاقات التقليدية التي تقوم على الانتماء غير الإرادي، ويفترض أن تلعب النزعة الإنسانية دوراً أساسياً في تشكّل الصداقة واستمرارها، وحينما نستخدم مفردة "الصداقة" فإننا لا نعني أبداً العلاقات العابرة أو الروتينية، بل نشير إلى مفهوم عميق من العلاقة الإنسانية المحضة، ولا أظن أحداً منا يستطيع تخيّل نفسه بلا أصدقاء، أو على أقل تقدير بلا صديق يطمئن ويرتاح إليه، فبحسب أرسطو فإنه "متى أحب الناس بعضهم البعض لم تكن هناك حاجة للعدل، غير أنهم مهما عدلوا فإنهم لا غنى لهم عن الصداقة...".

نحن الآن بصدد قراءة كتاب جميل صدر في 1993 بعنوان "الصداقة من منظور علم النفس"، يشير فيه مؤلفه الدكتور أسامة سعد أبوسريع إلى أن الصداقة تستمر من خلال المعاشرة والتشابه والمشاركة الوجدانية، ويؤكد أن الأصدقاء يستفيدون عدة فوائد منها: المساندة والتشجيع والدعم المعنوي والتقويم الـذاتي الإيجابي. والتحقق من صحة الأفكار والآراء الشخصية. و(التنبيه) بالقدرة على توسيع الأفكار والمعارف والرؤى لموضوعات متعددة.

وكذلك المنفعة المباشرة، بتسخير الوقت والموارد الشخصية لمساعدة الصديق.




وفي الغالب تعتبر الأعمار عاملا مهما لوجود حد معقول من الحب والتفاهم والانجذاب للاستمرارية بين الأصدقاء، غير أن السمات والاهتمامات المشتركة أيضاً عامل مهم في الصداقة، فتماثل السمات الشخصية والعقلية له دوره في استمرار الصداقة وتطورها وارتقائها بصرف النظر عن أي ظروف أخرى.

ولذلك ميّز أرسطو في الفلسفة بين ثلاثة أسس للمحبة (المنفعة واللذة والفضيلة)، فصداقة المنفعة تنتهي بانتهاء المنفعة ذاتها، وصداقة اللذة تنعقد بسهولة وتنتهي بسهولة، وصداقة الفضيلة-وهي أفضلها- تقوم على تشابه الفضيلة، غير أنّ أرسطو يؤكد أن الصداقة تكون أكمل حين تجتمع هذه الأسس جميعاً، وكلما امتد الزمن بالصداقة زاد مستوى التفاهم والتشابه بين الأصدقاء، أو هكذا يفترض في العلاقات ذات المستوى العالي من "الإنسانية".

وفيما يخص الصداقة في التراث العربي يشير المؤلف إلى نتاج الأدباء العرب والمسلمين، وهم من يسميهم محمد أركون بـ(الأدباء الأنسُنيّون) وهم مفكرون منفتحون على الثقافات الأخرى، يتميزون بوجود النزعة الإنسانية لديهم، حيث أثْروا الثقافة العربية الإسلامية بنتاجهم الذي يعتبر الإنسانَ محوراً كونياً، ومنهم بطبيعة الحال ابن المقفع (106-142هـ) الذي يقول: "اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء وعدة في الشدة، ومعونة في المعاش والمعاد...". أما مسكويه، وهو من المتأثرين بفلسفة أرسطو، فقد أشار إلى سرعة نهاية صداقة اللذة، وبطء انعقاد صداقة المنفعة، وأن صداقة الفضيلة تنعقد سريعاً وتنحل بطيئاً. أما أبو حيان التوحيدي فقد ألّف كتاباً بعنوان "الصداقة والصديق"، يشير فيه إلى أن الصداقة تسمو على القرابة، ويفرّق بين نوعين من الأصدقاء: نوع يحسن الكلام ولا يحسن العمل نحو صديقه، ونوع يحسن العمل ولا يحسن الكلام.

وفي علم النفس يشير المؤلف إلى الظروف المؤثرة والمتغيرات في الصداقة خلال مرحلة الرشد، سواء ما عزاه بعض الباحثين إلى المسألة العمرية (النضوج)، أو ما يتعلق بالتحولات البارزة في حياة الإنسان، كالزواج والإنجاب والعمل وما إلى ذلك، ففي مرحلة الرشد تقل الرغبة إلى عقد صداقات جديدة، وتنخفض معدلات اللقاء بين الأصدقاء، غير أن معظم الراشدين يحتفظون بصداقاتهم القديمة؛ مما يحول دون الشعور بتضاؤل العلاقات الحميمة، وعن الفروق بين الجنسين في إدارة العلاقات، يؤكد ارتباط الرجال بعدد أكبر من الأصدقاء مقارنة بالإناث؛ نتيجة الظروف الاجتماعية والثقافية، وفيما يتجه الرجال إلى المشاركة في الأنشطة المشتركة والاهتمامات والترويح عن النفس، تتميز الصداقات بين الإناث بدفء المشاعر والتلقائية وتبادل الإفصاح عن الذات.. وينقل المؤلف عن (دافيز) قوله إن الصداقة والحب، بين الجنسين، يتشابهان في وجوه عديدة، فالحب يستوعب كل مكونات الصداقة غير أنه يزيد عنها بمجموعتين من الخصائص هما: الشغف والعناية، وتندرج تحتهما عدة نقاط هي التي تحدد العلاقة والخصوصية وتميزها.