الكتابة المقطعيّة، أو الشذرات، لونٌ من الكتابة التأملية تخامرها الفكرة بقدر ما يسري فيها الشعر. الضربة الشعريّة الخاطفة بما فيها من وجدان وانثيال انفعالات، تتأسّس على رؤيةٍ هي حصيلةُ مراقبة ورصد يتجاور فيها الذّاتي مع الحركة الخارجية في وجودها المتعيّن المشروط باللحظة وبالتاريخ؛ بما يشكّل سياقات معرفية وثقافية واجتماعية. هي الخبرة التي تنشأ من جوارٍ قلق لا يهنأ بالقرب إلا ويغادر، قد يكون مبلولاً سوى أن العطش هو العنوان لهجرةٍ مستمرة؛ على إيقاع الحنين تمضي الأقدام، تعذّبها ذكرى الينابيع. الجوارُ القلق يتعدّى إلى حوارٍ لا يهدأ يتعالق فيه الحضور بالغياب على نحوٍ متوتر توترَ الوجود بين التشكل والمثول وبين الفراغ والعدم.
ربما يكون هذا التوتر الذي ينخلع إلى شظايا وبروق؛ دفعات متقطعة مشحونة بالالتماعات والسطوع وفي الوقت نفسه نجدها ترتطم بالثغرات والشروخ. كأنما الوشيجة لا تستقيم إلا على أنقاض تتآلف فيما بينها وتشكّل بطانة غير مرئية، تنفصل وتختفي أو هكذا توهمنا لنكفّ عن محاولتها والسعي خلفها قانعين بالنثار؛ يغرينا بتفاصيله وانشقاقاته مثل ضوءٍ باهر يدهم عينين في ظلمة. ضوءٌ له وجهُ القناع؛ حجابٌ يطمر الجمرةَ غير أن الشَّرَرَ ـ وإنْ في خفوتٍ وخفيضِ نبرةٍ ـ يحتدم.
إحدى الشذرات للشاعر زياد عبدالكريم السالم في كتابه "حصة آدم من النار" نموذج للكتابة المقطعية الزّاخرة بالبروق والاكتناز؛ نتاج النظر والتراكم شعريّاً ومعرفياً ورؤيوياً الذي يأتي عن دربةٍ وتأمّل ووعي: "جعلتْني الحكمةُ متخشباً مثل بوذا، أو كالفزّاعة حزينة ووحيدة في الحقول، أصنعُ من حكمتي أثراً للروح يخيف الطيورَ ويحرّضُها على الهجرة. هكذا حوّلتْني الحكمةُ إلى تمثالٍ لا يتحرّك، فيما تمرقُ الحياةُ مسرعةً في قطار الآخرين".
في هذه الشذرة تنتصب "الحكمةُ" بناءً طارداً؛ تقوم مَشغلاً ومنفى. التوقّف الذي يصنع الذاتَ ويفتتح المسيرة. إن الانعزال والجمود ليس في صورة ما يتبديّان عليه. إنهما ناتج التقطير والتكثيف والكدح في حدود "الخطر" بمعناه النيتشوي حيث تمحيص الوجود ومعانقة غايته. الوصول لا يعني الذات المفردة بقدر ما هو دليل. هي في الوحشة وفي الانقطاع وتعيش خبثَ العدم. هذا الخُبث في حكمته يتعالى منارةً لا تجذب. إنما تحدّد الجهة التي تَفِدُ منها الحياة وتضطرب أحشاؤها بالحركة "أصنعُ من حكمتي أثراً للروح يخيف الطيورَ ويحرّضُها على الهجرة".
الأثرُ هذا التوتّرُ الذي يعمل في اتجاهين؛ يصون الذّات عن التبدّد في المجرى العام وهو الضريبة الفادحة بعيْشِ النّفور والانزواء؛ فيما "الثمرةُ" تترحّل منزلقةً عن شجرتها إلى أيْدٍ تكتبُ بها صيغةَ وجودها.
يقول الناقد فاروق يوسف "الشّذرة وحدها تكفي لقول كل الحقيقة الكامنة تحت الرّماد". أحسب أنّ شاعرنا السّالم في معتكفه الشمالي ينفُذُ خلال الرماد ببصره الحديد.